الدخان يتصاعد فوق مدينة غزة مع لجوء النازحين الفلسطينيين إلى مستشفى الشفاء في 8 نوفمبر 2023 [ملف: رويترز/دعاء روق]

تم نشر هذا المقال في الأصل باللغة الإنجليزية على موقع الجزيرة

أعلنت دولة قطر، رسميًّا، في الساعات الأولى من الـ22 من تشرين الثاني/ نوفمبر، التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وبناء على التفاصيل المتوافرة حاليًّا فإن غالبية بنود هذا الاتفاق كانت بالأصل ضمن المقترح الذي قدمته حماس قبل عدة أسابيع والذي رفضته إسرائيل في البداية.

وجاء هذا الإعلان بعد مرور أسبوعٍ فقط على اقتحام الدبابات والجنود الإسرائيليين مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة، والذي أثار غضبًا دوليًّا؛ إذ زعمت إسرائيل أن المجمع يُؤوي مركزًا لقيادة حماس، وتوعّدت مرارًا بتدميره، إلا أنهم في الواقع لم يتمكنوا من العثور على شيء سوى المستشفى داخل المجمع.

 لم تكتف الولايات المتحدة بتقديم الدعم الكلي لانتهاك إسرائيل لحرمة مجمع الشفاء وحسب، بل وزعمت أن لديها معلومات استخباراتية مستقلة حول تمركز بنتاغون فلسطيني تحت المجمع الطبي، من دون أن تقدم أي دليل يدعم ادّعاءها هذا.

لذا فإن التوقعات حينها كانت تدور حول اتفاق أميركي إسرائيلي غير رسمي بأن تقوم إدارة بايدن بدعم اقتحام إسرائيل لمجمع الشفاء، وتغطية جريمة الحرب هذه سياسيًّا ودبلوماسيًّا بأكاذيب تخترعها؛ من أجل أن تتيح المجال للجيش الإسرائيلي، الذي لم يحقق سوى إنجازات قليلة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لتحقيق لحظة انتصار فاصلة "تشبه ما حدث يومًا في إيو جيما" في "مجمع الشفاء".

ولكن ما إن اتّضح أنه لا يوجد أي شيء ذو أهمية عسكرية داخل الموقع، حتى شرعت الولايات المتحدة بإتمام صفقة مع حماس، وتعيّن على إسرائيل الموافقة على تنفيذها. لذا يبدو بالفعل أن الاتفاق مع حماس تم مقابل الدعم الأميركي لقيام إسرائيل بالتدمير الممنهج للقطاع الصحي في قطاع غزة.

تكمن أهمية هذا الاتفاق في عدة جوانب، لعل أهمها أن الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين تعهدتا مرارًا وتكرارًا بالقضاء على حماس، تتفاوضان الآن مع الحركة الفلسطينية وتتوصلان إلى اتفاقيات معها. فقد كانت الوساطة القطرية المصرية- على أهميّتها - إجراءً شكليًّا؛ إذ إن الولايات المتحدة وإسرائيل لا تتفاوضان مع مصر وقطر، بل مع يحيى السنوار، زعيم حماس في قطاع غزة ومخطط هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر.

وبينما كانت التقارير الصحفية الإسرائيلية في الأيام الأخيرة تؤكد أن حماس بحاجة ماسة إلى استراحة من الهجوم الإسرائيلي الشرس على قطاع غزة، مهما كانت قصيرة وبأي ثمن تقريبًا، فإن التقارير المتعلقة بالصفقة تشير إلى خلاف ذلك؛ فقد التزمت إسرائيل بالإفراج عن ثلاثة أضعاف عدد الرهائن من المعتقلين من النساء والأطفال الفلسطينيين، دون أن يشمل التبادل أي جنود إسرائيليين. كذلك فقد تضمنت الصفقة إتاحة وصول قدر أكبر بكثير من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ومن ضمنها الوقود، وأن يجري تنفيذ تبادل الأسرى خلال هدنة تستمر أربعة أيام بدلًا من توقف القتال مدة قصيرة كل يوم. هذا بالإضافة إلى منع الطائرات الإسرائيلية، وكذلك الطائرات بدون طيار، من أن تحوم في المجال الجوي فوق قطاع غزة عدة ساعات كل يوم.

وهذا تقريبًا ما نصّت عليه الصفقة التي عرضتها حماس في البداية قبل عدة أسابيع. إذًا، يبدو أن إسرائيل والولايات المتحدة قد تنازلتا عن الجزء الأكبر من مطالبهما. وانطلاقًا من القول المأثور أن المفاوضات تعكس الواقع على الأرض بدلًا من تغييره، فإن حماس بعيدة كل البعد عن اليأس، وهذا طبعًا لا يمثل حال المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، الذين كانوا الهدف الرئيس لإسرائيل، بل إن حماس تبدو واثقةً كفاية لتتمكن من الإصرار على أولوياتها إلى أن تقبلها الولايات المتحدة وإسرائيل.

أجبرت حماس أيضًا الولايات المتحدة وإسرائيل، بموجب هذا الاتفاق، على الموافقة على إدخال كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية الأساسية إلى قطاع غزة. أي يمكن القول إن حماس حققت في خطوة واحدة قدرًا هائلًا من الإنجازات على الصعيد الإنساني يفوق ما حققته الدبلوماسية الأميركية التي ظلّت تتبجح بها بخصوص تأمين الإغاثة الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين في غزة خلال الشهر الماضي.

وهذا يؤكد أن الجهد الأميركي برُمَّته كان في جوهره مجرد "سيرك"، أو تمثيلية، لتشتيت الانتباه من أجل تمكين إسرائيل من الاستمرار في عمليات القتل الجماعي وتحويل قطاع غزة إلى أرض قاحلة وساحة للقتل.

ويجدر أن نكرر هنا ونشير إلى أنه رغم أن حركة حماس هي التي أجبرت الولايات المتحدة وإسرائيل على السماح بوصول كميات كبيرة من الغذاء والماء والدواء والوقود إلى المدنيين في قطاع غزة، فإن الحركة ما زالت تُعَدُّ هي المنظمة الإرهابية، في حين يُنظَر إلى إسرائيل على أنها مثالٌ للدول التي تمتلك الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، وإلى الولايات المتحدة على أنها تمثل أعظم ديمقراطية في العالم تلتزم بنشر الحرية وحقوق الإنسان إلى بقية أنحاء الكوكب.

من الصعب الآن التكهن بما سيحدث بعد ذلك. ووفقًا للتقارير، سيُطلَق سراح المواطنين الإسرائيليين ومزدوجي الجنسية فقط، وكأن القيادة الإسرائيلية مضطرة إلى تحمل مرارة ذلك من أجل تهدئة المخاوف الإسرائيلية بناء على أن إطلاق سراح المواطنين الأجانب يعد أمرًا مميزًا في المفاوضات مع حماس. ومع ذلك، فمن خلال إصرارها على هذه الصيغة فقد أوجبت إسرائيل على نفسها الاستمرار في مفاوضات إضافية للإفراج عن المدنيين الأجانب، وهو ما قد يؤدي إلى تمديد الهدنة.

لكن في الوقت نفسه من الصعب الاعتقاد بأن القيادة الإسرائيلية يمكن أن تقبل بتمديد هذه الهدنة المؤقتة إلى أجل غير مسمى. ومن الواضح أن استمرار هذا النزاع يصب في مصلحة رئيس الوزراء الإسرائيلي الشخصية والسياسية، إذ تسعى المؤسسة الأمنية جاهدة إلى التخلص من وصمة عار السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وإذ يرى أعضاء آخرون من شركاء الائتلاف الحاكم في إسرائيل أن هذه الحرب فرصة ذهبية لإطلاق العنان والسعي لتحقيق الأهداف النهائية، فإنهم يريدون أن يتصاعد الأمر أكثر بدلًا من أن يهدأ.

إن حركة حماس نفسها لم تتأثر فعليًّا، رغم الدمار الكبير الذي حل بقطاع غزة، بل إن الجيش الإسرائيلي لم يتمكن أصلًا من قتل قادةٍ من حماس بقدر ما قتل من موظفي الأمم المتحدة.

لن تتوانى إسرائيل عن الاستمرار في الاستخفاف بالسياسة الأميركية إذا ضمنت إفلاتها من تحمل أي عواقب، وقد يتجلى ذلك في خرق الهدنة أو استئناف الأعمال العدائية لضمان عدم تمديدها. ففي مكان آخر يبدو أيضًا أن الأحداث في الجبهة الإسرائيلية اللبنانية تشتعل بسرعة، وهذا ما يجعل احتمال حدوث مزيد من التصعيدات قائمًا. لكن من المحتمل أيضًا أن يؤدي تنفيذ هذه الصفقة إلى انهيار حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تحت ضغط الرأي العام وضغط الصراعات الداخلية بين القادة الذين يكره بعضهم بعضًا ولا يثق بعضهم ببعض.

ثمة علامات استفهام تدور أيضًا حول القيادة الأميركية؛ إذ يبدو أن الرئيس الأميركي جو بايدن غير مهتم بتأثير هذه الأزمة على المصالح الأميركية في المنطقة وخارجها، وخاصة مسألة التصعيد الإقليمي، في حين يبدو أن أنتوني بلينكن، وزير الخارجية، غير واثقٍ مما يجب القيام به، أما وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، ولويد أوستن، وزير الدفاع، فيبدوان مذعورين. ويبقى السؤال مفتوحًا عمَّن ستكون له اليد العليا في الخطوات المقبلة.

إن الاستنتاج الوحيد الذي يمكن استخلاصه الآن بالفعل هو بقاء احتمال انهيار العديد من سيناريوهات "اليوم التالي" المختلفة التي تنتجها غرفة الصدى في واشنطن؛ لأنها كلها تريد القضاء على حماس، لا التفاوض على اتفاقيات معها.