​هذه المقدمة لفصل من كتاب "فهم الصراعات العربية"، من إصدارات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


المقدمة:

لم تخلُ المنطقة العربية على مدى قرون طويلة من الصراعات في مختلف مستوياتها، فهي تلك البقعة التي تتوسط العالم القديم، وتمر عبرها خطوط التجارة، وهي مهد الديانات، وموطن الموارد الطبيعية، ووجهة الأطماع الاستراتيجية والسياسية؛ وهي أيضا حيث يبرز دور القبائل والعشائر الاجتماعي والسياسي. وفي عصر "الجاهلية"، لم يكن ثمة نظام تقاضٍ رسمي، فيما كانت الآلية الأكثر قبولًا لتسوية الصراعات داخل القبيلة، أو بين القبائل، هي اللجوء إلى طرفٍ ثالث أشبه بالوسيط.[1] عموما، يدفع تكرار الصراعات في مجتمع ما إلى تطوير آلياتٍ لتسويتها ومنع خروجها عن السيطرة وتدمير النسيج الاجتماعي[2]؛  لذلك، يزخرُ التاريخ العربي برواياتٍ كثيرة عما طبّقه العرب من الحلول أو التسويات السلميّة  للصراعات، وما أدته التقاليد والأعراف والعادات القبلية من دورٍ في ذلك، مثلما كان لها دورٌ في إشعالها وتأجيجها.[3] وعزز ظهور الإسلام وسائل التسوية السلميّة الموروثة، مثل الوساطة، فوضعت الشريعة الإسلامية لها أسسًا وآلياتٍ إضافية، كما حثّت المجتمع على العناية بها.

ولا تزال منهجية الوساطة العربية-الإسلامية متّبعة على نطاق واسع، رغم التغيرات الاجتماعية والثقافية، والتحديث وظهور القومية والدولة الحديثة بهياكلها؛ فالملامح الثقافية المميزة للمجتمعات العربية-الإسلامية لم تنحسر، وبقيت بصمة لعادات البدو وأعرافهم فيها، حتى مع تراجع تأثيرها في المدن وبعض القرى.[4] حيث تحتفظُ شعوب المنطقة بالتزامها بالعائلة والعلاقات الاجتماعية، وتوظّفها في مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وما يعترضها فيها من صراعات.[5] كما يمكن ملاحظة ملامح النهج العربي-الإسلامي حتى في مجال تسوية الصراعات السياسية والعسكرية بين بعض الدول العربية، أو داخلها، هذا علاوةً على إدماج هذا النهج في النظم القانونية بدرجةٍ ما.

وعلى المستوى العالمي، ورغم تأطير الوساطة خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين في معانٍ سلبية، فقد تغير الموقف،[6] وشهدت العقود الأخيرة زيادةً في دعم أجهزة ومؤسسات الحلول (الوسائل) البديلة لتسوية الصراعات (ADR)، والوساطة تحديدًا لم تعد مجرد بديل، وإنما باتت جزءًا أساسيًا من نظمٍ قانونيةٍ عدة.[7] كما شهدت دراسات الصراع والسلام اهتمامًا خاصًا بإحياء البُعد الديني، والخروج بدروسٍ عملية ورؤىً عديدة عبر البحث في دور الدين في المصالحة وبناء وصنع السلام.[8]

ويأتي هذا الفصل ضمن موكبِ الدراسات المهتمة بالوساطة التقليدية. وهو يركّز على الوساطة العربية-الإسلامية من منظورٍ ثقافي اجتماعي؛ حيث يبدأ بملاحظاتٍ تقدم إطارًا للوساطة محلّ البحث، وتبُرّره؛ ثم يشرحُ مفهوم الوساطة، ويستعرضُ الروافد الثقافيةَ للنهج العربي-الإسلامي فيها. ومن بعد، يتطرّقُ لمُحدّدات ذلك النهج من سماتٍ وقواعدَ وشروط. يلي ذلك شرح تفصيلي لمنهجية العملية ودينامياتها، يتضمنُ ملاحظاتٍ حول صلاحياتِ الوسيط فيها، وتمثيل المرأة، وماهية أدوار المفاهيم ونقدها.


المراجع

[1] Ahmad Moussalli, "An Islamic Model for Political Conflict Resolution: Tahkim (Arbitration)," in Conflict Resolution in the Arab World: Selected Essays, (American University of Beirut Beirut, Lebanon, 1997), p. 46.

[2] كريستوفر و. مور، عملية الوساطة: استراتيجيات عملية لحل النزاعات, (عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2007)، 71.

[3] Oussama Safa, "Conflict Resolution and Reconciliation in the Arab World: The Work of Civil Society Organisations in Lebanon and Morocco", (Berghof Forschungszentrum für Konstruktive Konfliktbearbeitung, 2007), 4, https://bit.ly/2SbfPYJ.

[4] George E Irani and Nathan C Funk, "Rituals of Reconciliation: Arab-Islamic Perspectives," Arab Studies Quarterly 20, no. 4 (1998): 60, https://bit.ly/2CiDigz.

[5] George E. Irani, "Islamic Mediation Techniques for Middle East Conflicts," Mediate.com, July 26 1999, at: https://bit.ly/2BfhnGn.

[6] Jalal El-Ahdab and Myriam Eid, "Mediating in Lebanon: From Old to New?," in New Developments in Civil and Commercial Mediation, ed. Carlos Esplugues and Louis Marquis 6, Ius Comparatum - Global Studies in Comparative Law, (Springer International Publishing, 2015), 9. https://doi.org/10.1007/978-3-319-18135-6.

[7] Ibid., p. 2.

[8] Sezai Özcelik, "Islamic/Middle Eastern Conflict Resolution for Interpersonal and Intergroup Conflicts: Wisata, Sulha and Third-Party," Uluslararası İlişkiler / International Relations 3, no. 12 (2006): 4, https://bit.ly/2S4rZ5u.