​تم نشر المقال في الأصل باللغة الإنجليزية على موقع Mondoweiss

أصدرت محكمة العدل الدولية بيانًا صحفيًّا جاء فيه أنها "ستصدر أمرها"، يوم الجمعة، ردًّا على "طلب الإشارة إلى التدابير المؤقتة" الذي تقدمت به جنوب أفريقيا في القضية المتعلقة بـ"تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة والمعاقبة عليها (جنوب أفريقيا ضد إسرائيل)".

يتوقع كثير من الناس، ممن أصيبوا بصدمة هائلة من حملة الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، من محكمة العدل الدولية أن تأمر بوقف شامل لإطلاق النار. وهذا في رأيهم هو أقل ما يمكن ويجب على محكمة العدل الدولية القيام به، وأن أي شيء أقل من ذلك يعد فشلًا لجنوب أفريقيا، وخيانة للشعب الفلسطيني، وإدانة لمحكمة العدل الدولية، بل والقانون الدولي ذاته.

ومن وجهة نظري ينبغي النظر إلى هذه المسألة بنظرة مختلفة تمامًا، والحكم عليها بمعايير مختلفة.

يمكن لمحكمة العدل الدولية الرد على طلب جنوب أفريقيا بعدة طرق؛ فيمكنها أن تقرر أن جنوب أفريقيا لم تقدم حجة مقنعة تستوجب من إسرائيل الرد عليها، ورفض إصدار أمر بأي تدابير مؤقتة، واعتبار القضية مغلقة. وقد تقرر المحكمة أيضًا أن جنوب أفريقيا فشلت في إثبات وجود نزاع بينها وبين إسرائيل بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، وأن ترفض القضية لأسباب فنية. وبناء عليه سيشكّل كل من هذين السيناريوهين هزيمة واضحة لجنوب أفريقيا والفلسطينيين، فضلًا عن التأثير السلبي على مفهوم العدالة الدولية. ويرى معظم المتخصصين أن كلا السيناريوهين هو النتيجة الأقل ترجيحًا، ويرجع ذلك- إلى حد بعيد- إلى تقديم الفريق القانوني لجنوب أفريقيا قضية قانونية وواقعية، مفصلة بدقة وبالحجج المقنعة، في حين كان رد إسرائيل ضعيفًا نسبيًّا.

وإذا أمرت المحكمة بالفعل باتخاذ تدابير مؤقتة فإنها غير ملزمة بتلك التي طلبتها جنوب أفريقيا، ويمكنها كذلك أن تعتمدها كلها أو بعضها، أو تختلف تمامًا عن تلك التي اقترحتها جنوب أفريقيا. وفي السياقات ذات الصلة؛ البوسنة ومن ثم ميانمار، اكتفت محكمة العدل الدولية بأوامر قضائية عامة تأمر الدولة المتهمة "باتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها" لمنع الأفعال التي ترقى إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية أو تساهم فيها. ومن خلال قيامها بذلك فقد تحظر حتى أعمالًا معينة حُدّدت في الاتفاقية، مثل تعمد فرض ظروف معيشية تهدف إلى إحداث الإبادة الجسدية للمجموعة المهددة.

وقد أمرت محكمة العدل الدولية بالفعل بوقف إطلاق النار في حالة أوكرانيا، ولكن- كما وضح لي في الرد على موضوع طُرح سابقًا- كانت هذه قضية مختلفة تمامًا؛ إذ لم تزعم أوكرانيا أنها كانت ضحية للإبادة الجماعية، بل إن روسيا كانت تتذرع باتهامات غير موثقة عن ارتكاب أوكرانيا جريمة الإبادة الجماعية لتبرير العمليات العسكرية على الأراضي الأوكرانية، وعلى هذا الأساس طلبت أوكرانيا من روسيا وقف تلك العمليات، وأمرت محكمة العدل الدولية بذلك.

وعلى الرغم من أن جنوب أفريقيا- ضمن القضية الحالية- طلبت من المحكمة أن تأمر بتعليق "فوري" للعمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة من أجل منع المزيد من الانتهاكات الإسرائيلية لاتفاقية الإبادة الجماعية، فإنها لم تطلب من المحكمة أن تبت، على وجه التحديد، في شرعية العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة. وبناء عليه فمن غير المرجح، إلى حد بعيد، أن تقدم محكمة العدل الدولية وجهة نظرها بشأن هذه المسألة من خلال- على سبيل المثال- إعلان أن عملية "السيف الحديدي" التي تشنها إسرائيل غير قانونية أو أنها إبادة جماعية في جوهرها، وأن تأمر بوقفها على هذا الأساس.

وبناء عليه، لا أتوقع من محكمة العدل الدولية، التي ليست في معزل عن السياق الاجتماعي والسياسي للقضية، الدخول طوعًا في عقبة سياسية وتأمر بوقف إطلاق النار. وحتى لو حدث ذلك فإن مثل هذا الحكم سيكون ميتًا عند صدوره؛ لأن إسرائيل صرحت بالفعل أنها ستتجاهله، ولا تملك المحكمة صلاحية إنفاذ أحكامها؛  لأن هذا منوط بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وما دامت الولايات المتحدة عضوًا دائمًا يتمتع بحق النقض/الفيتو في المجلس، فإنها سوف تمنع أي محاولة من جانب محكمة العدل الدولية لإيقاف إسرائيل عن ارتكاب الإبادة الجماعية. وأعتقد أن الدستور الأميركي سيتضمن قريبًا التعديل الثامن والعشرين الذي يقنن حصانة إسرائيل من العقاب.

ولذلك- في رأيي- سيكون من الخطأ الحكم على أمر محكمة العدل الدولية يوم الجمعة من خلال كونه يدعو إلى وقف إطلاق النار أو لا؛ لأن ذلك لن يحدث؛ لأسباب لا علاقة لها- إلى حد بعيد- بجوهر هذه القضية. وحتى لو حدث ذلك فلن يكون له سوى قيمة رمزية ولن يكون له أي تأثير على أرض الواقع.

الأهم من ذلك بكثير، في رأيي، هو ما إذا كانت المحكمة ستصدر أي تدابير مؤقتة من الأساس؛ فإذا قضت بأي شيء آخر غير رفض طلب جنوب أفريقيا، فسيكون لهذا أهمية كبيرة؛ لأنه يعني أن أعلى محكمة في العالم قد قضت بأن جنوب أفريقيا قدمت حجة مقنعة مفادها أن إسرائيل تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية، وأن ادعاءاتها تستحق جلسة استماع كاملة. وهذا من حيث المضمون يعد  اتهامًا رسميًّا يتطلب محاكمة مناسبة وكاملة. وإن صدور أي إجراءات مؤقتة يعني أنه ستكون هناك محاكمة كاملة.

 

وكما لوحظ في قضايا أخرى، لا تحدد المحكمة، في هذه المرحلة، ما إذا كانت إسرائيل متهمة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أم لا، بل إنها تدرس فقط ما إذا كان اتهام جنوب أفريقيا لإسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية مقنعًا، وإذا كان كذلك فما "التدابير المؤقتة" المطلوبة لمنع وقوع ضرر لا يمكن إصلاحه في انتظار اختتام جلسات الاستماع؟ وإذا وصل الأمر بالفعل إلى تلك المرحلة، فمن المتوقع أن تستمر جلسات الاستماع هذه عدة سنوات (بدأت قضية البوسنة في عام 1993 وانتهت في عام 2007؛ وبدأت قضية ميانمار في عام 2019 وما زالت مستمرة).

وعلى الرغم من أن كل الاحتمالات واردة يوم الجمعة، ومن بينها حكم محكمة العدل الدولية إما برفض القضية أو بالأمر بوقف إطلاق النار، فإن العديد من المتخصصين لا يتوقعون أيًّا منهما، إذ يعتقدون أن المحكمة ستوافق على المضي قدمًا في القضية، واعتماد تدابير مؤقتة أكثر عمومية. وسيكون لهذا، كما ذكرنا، أهمية كبيرة؛ إذ إنه يعني أن إسرائيل متهمة رسميًّا بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، التي تعد أخطر جريمة على الإطلاق، "جريمة الجرائم".

وبناء عليه فإن الدولة التي تدّعي أنها "نور للأمم"، والتي تزعم أن لديها "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم" لأنها تقاتل وفق عقيدة "طهارة السلاح"، وأن وجودها أبدي "لن يحدث ذلك مطلقًا مرة أخرى"، ستُتهم بالسعي عمدًا إلى إبادة مجموعة من الأشخاص على أساس هويتهم، وستضطر إلى الدفاع عن نفسها، وستكون عبرة للأمم العازمة على فعل ذلك مرة أخرى. وبغض النظر عن النتيجة النهائية فهي وصمة عار لن تتعافى منها إسرائيل أبدًا.

وأجدني ممتنًّا لأردي إمسيس، أستاذ القانون في جامعة كوينز، لتسليطه الضوء على جانب مهم آخر من أمر محكمة العدل الدولية بشأن التدابير المؤقتة: "لا تتعلق الاتفاقية بالمعاقبة على جريمة الإبادة الجماعية فقط، بل تتعلق أيضًا بمنع جريمة الإبادة الجماعية. وبمجرد أن يكون لديك قضية إبادة جماعية مقنعة، وهي مسألة ضمنية إذا أصدرت المحكمة أمرًا باتخاذ تدابير مؤقتة، فإنه يترتب على ذلك التزام إيجابي من جانب الدول الأخرى الموقعة على اتفاقية الإبادة الجماعية، يقضي بمنع الإبادة الجماعية. وهذا يؤدي إلى ضرورة تعديل سياساتهم إزاء تصرفات سلطة الاحتلال في غزة، ومن ضمن ذلك نقل الأسلحة والحماية الدبلوماسية".

وبعبارة أخرى، يجب الحكم على أمر محكمة العدل الدولية الذي سيصدر يوم الجمعة من خلال ما إذا كان يؤيد أو يرفض طلب جنوب أفريقيا، لا على أساس ما إذا كانت تأمر بتدابير ستتجاهلها إسرائيل وتجعلها الولايات المتحدة بلا معنى.

 

ويجدر أيضًا النظر في مدى التقدم الذي حققته جنوب أفريقيا منذ أن كان نظام الأقلية البيضاء فيها أحد أقرب حلفاء إسرائيل. ونظرًا لسجل إسرائيل الطويل والمشين من التحالفات مع معادي السامية، فينبغي ألا يكون مفاجئًا أن العديد من قادة الحزب الوطني الحاكم في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، مثل دانيال فرانسوا مالان، وهندريك فرينش فيرويرد، وجون فورستر، وبيك بوتا، دعموا النازيين بقوة خلال الحرب العالمية الثانية أو تبنوا علنًا سياسات معادية للسامية. وخلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين كانت كل من إسرائيل وجنوب أفريقيا منبوذتين على المستوى الدولي، مما جعل هاتين الدولتين العنصريتين المتعصبتين مؤسسيًّا متقاربتين، وكان المخابرات الأميركية تشتبه بشدة في قيامهما بإجراء تجربة نووية مشتركة في المحيط الهندي عام 1979. الطيور على أشكالها…

ومع ذلك، تمثّل جنوب أفريقيا اليوم أحد قادة العالم الحر، إن لم تكن زعيمته. وعلى النقيض من ذلك تدعي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كونهما منارات الحرية، ويناديان بشعارات فارغة تحظى بالاحترام في المقام الأول عند انتهاكها، كما نرى في غزة اليوم. وبالحديث عن الأسلحة النووية والمواقف المتناقضة، دعا وزير التراث الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، مجددًا اليوم إلى إسقاط قنبلة نووية على قطاع غزة، وأشار إلى أنه "حتى في لاهاي يعرفون موقفي".

لماذا يتحدث بجرأة مثل هذه؟ لأنه عندما دعا سابقًا إلى حرب نووية في أواخر عام 2023، تجاهلت كل العواصم الغربية دعوته إلى الإبادة الجماعية وتجاوزت الأمر؛ لأن موقفهم الرسمي هو أن إسرائيل لا تمتلك الأسلحة النووية التي يمتلكها الغرب، وأن إيران وحدها هي التي تشكل التهديد المتسارع. وهذه هي الطريقة التي يعمل بها نظامهم الدولي المتفكك القائم على القواعد.