يمثل العمل الإنساني ممارسة اجتماعية عميقة تسعى إلى فهم أوضاع الناس واحتياجاتهم، ثم العمل معهم؛ أفرادًا وجماعات ومنظمات وسلطات وشعوبًا بأكملها، لتحقيق تحسينات في حياتهم الشخصية وتجاربهم الجماعية.
أدلى بهذا التصريح هوغو سليم، الشخصية البارزة في المجال الإنساني، وهو يدور حول أهمية تقاسم السلطة في العمل الإنساني بوصفه نقطة انطلاق لمناقشات أعمق حول ديناميات القوة المعقدة ضمن النظام الإنساني الدولي. وفي سياق الجهود الإنسانية المعاصرة يمكن فهم مصطلح "الأفراد"، الذي يشير إليه سليم، بوصفه كناية عن شعوب دول الجنوب العالمي التي غالبًا ما تنتظر أن يعترف الشمال العالمي باحتياجاتها ويتدخل لتحسين أوضاعها.
أما بالنسبة لهاتين المنطقتين فإن الجنوب العالمي يشير إلى البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط وهي تشكل ثلثي سكان العالم، في حين يمثل الشمال العالمي الدول المهيمنة جيوسياسيًّا، ذات أعلى ناتج محلي إجمالي للفرد. وهذا يثير تساؤلًا جوهريًّا وهو: لماذا لا يزال من المتوقع أن تعتمد دول الجنوب العالمي على مساعدة الجهات الفاعلة من الشمال العالمي من أجل البقاء والتنمية؟
على مدى العقود الخمسة الماضية ازداد- على نحو هائل- اعتماد دول الجنوب العالمي على المساعدات الإنسانية، وهو ما فرض ضغوطًا جسيمة على الجهات الفاعلة في المجال الإنساني، حيث تعتمد الدول والمجتمعات المتضررة من الأزمات، مثل أفغانستان والصومال ولبنان، على هذه المساعدات من أجل البقاء. ويعود الاعتماد اليائس لهذه الدول واقتصاداتها على المساعدات الدولية- إلى حد بعيد- إلى الأزمات الإنسانية التي ساهمت في جزء كبير منها سياسات بعض حكومات الشمال. وعلى النقيض من ذلك، غالبًا ما تتخذ منظمات وحكومات الشمال العالمي دور "الشرطة الإنسانية"، التي تقود الجهود الإنسانية العالمية. ومع ذلك، فإن القيادة التقليدية للعمل الإنساني الدولي من قبل دول الشمال العالمي قد حدت من نفوذ الجهات الفاعلة من الجنوب العالمي، حتى غدت مجرد وكيل في الجهود الإنسانية التعاونية بدلًا من أن تكون شريكًا حقيقيًّا.
وقد أصبحت الحاجة إلى إعادة التوازن في القوة بين الجهات الفاعلة في دول الشمال والجنوب، في الآونة الأخيرة، ملحَّة؛ لضمان استجابات إنسانية فعالة ومحددة السياق وفي الوقت المناسب، ولا سيما مع انتشار الأزمات الممتدة في الجنوب العالمي. ونتيجة لذلك تتحدى هذه الجهات الفاعلة الآن الوضع الراهن من خلال تأكيد وجودها، والسعي إلى إنهاء الهيمنة الهرمية من أعلى إلى أسفل في النظام الإنساني الدولي الذي يسيطر عليه الشمال العالمي، وذلك ما يبشر بعهد جديد من القيادة الإنسانية.
هيمنة الشمال العالمي على نظام المساعدات الدولية
يعكس مصطلحا "الشمال العالمي" و"الجنوب العالمي" العلاقات الهرمية التي تحكم التفاعلات بين هاتين المنطقتين؛ فقد أدى نفوذ الشمال على الجنوب على مدى قرون إلى إرساء نظام عالمي، سواء في الممارسة أو الأيديولوجية، ضمن العمل الإنساني. وبعد الحرب العالمية الثانية، فرضت الجهات الفاعلة في الشمال العالمي نظامًا إنسانيًّا، من خلال وسائل سياسية ودبلوماسية واقتصادية، للحفاظ على هيمنتها.
وقد أدى هذا إلى ظهور منظومة إنسانية دولية تخضع بالفعل للشمال العالمي وتعود بالنفع عليه، وتحد من ثَمَّ من أهمية الجهات الفاعلة في الجنوب العالمي وتقوضها. ونتيجة لذلك نشأت علاقة قائمة على نموذج "الراعي والزبون"، فبينما تضطلع الجهات الفاعلة من الشمال بدور المنفذ للعمل الإنساني والمقدم للمساعدات، يقتصر دور الجهات الفاعلة من الجنوب على تلقي هذه المساعدات. وعلى الرغم من ذلك تسعى الجهات الفاعلة في الجنوب العالمي إلى إعادة تشكيل النظام الإنساني الذي يهيمن عليه الشمال من خلال استعادة دورها في العمل الإنساني وتقديم المساعدات بشكل نشط. ويعكس هذا التحول نية وتصميم هذه الجهات الفاعلة على تصحيح اختلالات القوة في العمل الإنساني، وإعادة تأسيس علاقات عادلة بين الشمال والجنوب داخل النظام الإنساني الدولي.
وقد كان لتطور أدوار الجهات الفاعلة في الجنوب والشمال العالمي تأثير كبير في كيفية إدارة الأزمات الإنسانية والاستجابة لها في جميع أنحاء العالم؛ إذ تتبنى الجهات الفاعلة في الشمال العالمي استراتيجيات متعددة للحفاظ على هيمنتها على الموارد وتأثيرها في صنع القرار ضمن الجهود الإنسانية الدولية، ويتجلى هذا في حقيقة أن نظام المساعدات الدولية يموَّل في أغلبه من قبل 15 إلى 20 دولة مانحة، معظمها من دول لجنة المساعدة الإنمائية (DAC)، وأن معظم المنظمات العاملة في المجال الإنساني موجودة في الشمال العالمي. علاوة على ذلك، تسعى الدول المهيمنة في الشمال العالمي، مثل الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، إلى ترسيخ تسلسلات السلطة من خلال استغلال اعتماد سكان الجنوب العالمي المتضررين على المساعدات من أجل البقاء. فعلى سبيل المثال بين عامي 2009 و2021 لم يُخصص سوى أقل من 10 في المئة من المساعدات الإنمائية الرسمية لمنظمات المجتمع المدني في الجنوب العالمي، وهو ما عزز ديناميات القوة بين الجهات الفاعلة في المجال الإنساني في الشمال والجنوب. بالإضافة إلى ذلك، ونظرًا لاحتياجات سكان الجنوب العالمي، يقدم ممثلو الشمال العالمي الدعم المالي للمنظمات الإنسانية الشمالية، مثل وكالات الأمم المتحدة ولجنة الإنقاذ الدولية ومنظمة أوكسفام، لتقديم المساعدات لسكان الجنوب العالمي، وهذا يعزز هيمنتهم ويرسخ صورة أنهم "منقذون" في الجنوب العالمي.
صعود الجهات الفاعلة في المجال الإنساني في الجنوب العالمي
أصبح تزايد نفوذ الجهات الفاعلة من دول الجنوب العالمي في مجال العمل الإنساني واضحًا بجلاء؛ وذلك من خلال مساهماتها الحاسمة ونهجها الإبداعي وجهودها واسعة النطاق في مختلف المناطق. وقد برزت الجهات الفاعلة في المجال الإنساني، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر ودول مجموعة البريكس (ومن بينها البرازيل وروسيا والهند والصين)، بصفتها جهات فاعلة رئيسة غير تقليدية على الساحة الإنسانية الدولية، من خلال مشاركتها الحاسمة والحيوية في الأزمات الإنسانية المختلفة. فعلى سبيل المثال قدمت المملكة العربية السعودية، منذ عام 2013، ما يقدر بنحو 9 مليارات دولار في تمويل العمل الإنساني، وقدمت الإمارات العربية المتحدة 6 مليارات دولار، والكويت 2.6 مليار دولار، وقطر 735 مليون دولار. وبالإضافة إلى ذلك، برزت الإمارات العربية المتحدة وقطر وتركيا جهاتٍ فاعلة رائدة في الدبلوماسية الإنسانية، مع نجاح ملحوظ في إنقاذ أرواح السكان المتضررين؛ من خلال التوسط في النزاعات والتدخل في الأزمات الإنسانية الأخرى. ومن جانب آخر، نفذت الصين، وهي جهة فاعلة صاعدة في المجال الإنساني من الجنوب العالمي، أكثر من 800 مشروع مساعدات إنسانية في 40 دولة، وهو ما يجعلها المزود الرائد للمساعدات بين الدول "النامية". وفي أفريقيا، تتصدر دولة جنوب أفريقيا تقديم المساعدات التقنية والإنسانية ضمن منطقة مجموعة تنمية الجنوب الأفريقي (SADC).
تسلط هذه الجهود الضوء على الالتزام السياسي والاقتصادي والهيكلي للجهات الفاعلة في المجال الإنساني من الجنوب العالمي لتأكيد مكانتها ضمن المشهد الإنساني العالمي. وتعكس أيضًا استراتيجية واضحة ومتعمدة؛ إذ تتطلب هذه الجهود استثمارات مالية كبيرة وتعبئة موارد هائلة. وتتحرك هذه الحكومات برؤية واضحة تعمل على زيادة نفوذها وتعزيز مكانتها بوصفها فاعلًا رئيسًا في العمل الإنساني. ومع ذلك، من المهم بنفس القدر ضمان عدم وقوع نظام المساعدات الذي تقوده دول الجنوب العالمي في نفس الفخ، حيث يؤدي استخدام المساعدات أداةً جيوسياسية إلى تقويض جوهر العمل الإنساني، ويؤدي إلى نفس الإشكالية المتمثلة في النظر إلى المساعدات الإنسانية على أنها وسيلة لتحقيق أهداف أخرى غير إنسانية، سياسية في الأساس، بدلًا من أن تكون الهدف الأسمى للنظام الإنساني. ومن ثم يجب على الدول الإنسانية الرائدة في العمل الإنساني من الجنوب العالمي، مثل الصين وغيرها، أن تلتزم بالمبادئ الإنسانية وتحترم طبيعة العمل الإنساني التي تركز على مساعدة الأفراد.
التحديات التي تقوّض هيمنة الشمال على النظام
تتجه الجهات الفاعلة من دول الجنوب العالمي نحو قيادة العمل الإنساني، مبتعدة عن النظام الدولي التقليدي الذي تنتهجه دول الشمال في المجال الإنساني، ومسلطة الضوء على التغييرات الهيكلية والتشغيلية. ومع الإقرار بالحاجة إلى نهج أكثر استجابة لتلبية احتياجات الناس في الجنوب العالمي، فإن الشراكة الإنسانية الأفقية المحتملة، لا الشراكة الرأسية التقليدية، بين الجنوب والشمال، تعدُّ تحديًا لهيمنة الشمال على العمل الإنساني. وفي حين أن هذا التحول سيؤثر حتمًا على الجهود الإنسانية الدولية، فإن المنافع الناتجة والخلافات المحتملة ستساهم في تعزيز النظام وتحسين النتائج.
وعلى المستوى الهيكلي، تعكس الجهود المستمرة التي تبذلها الجهات الفاعلة في الجنوب العالمي لبناء وتحسين القدرات في القطاع الإنساني، والاستعداد لاستجابات أكثر فاعلية، وإضفاء الطابع المؤسسي على العمل الإنساني على مستوى الحكومة، تعكس التزامها بالتحرر من الحوكمة الإنسانية العالمية التي يقودها الشمال. وعلى المستوى العملي، تسلط الأموال السخية والمبادرات والمشاريع العديدة التي تقودها الجهات الفاعلة في الجنوب الضوء على إصرارها واستعدادها لإنهاء الاعتماد على "رحمة" الشمال في تقديم المساعدات.
وهناك عدة عوامل تدفع الجهات الفاعلة من الجنوب العالمي إلى السعي لتحقيق هذه الأهداف؛ من بينها عدم الثقة بدوافع الشمال العالمي من وراء جهوده الإنسانية، وظهور قوى اقتصادية وسياسية جديدة في الجنوب، إلى جانب الخبرة المتنامية والتزام الجهات الفاعلة من الجنوب بالانخراط في العمل الإنساني. ولعل الأمر الأكثر بروزًا هو أن الاستجابات الإنسانية غير الفعّالة وغير الكافية في دول الجنوب العالمي، مثل السودان وفلسطين (غزة) وأفغانستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا، تكشف عن إعطاء الشمال الأولوية لأزمات معينة على حساب أخرى، وتقديم أجندات سياسية على الهدف الحقيقي المتمثل في مساعدة الناس. ويقوّض هذا النهج الانتقائي المبادئ الإنسانية الأساسية، ومن بينها الإنسانية والنزاهة والحياد، وهو ما يؤكد ضرورة أن يتولى الجنوب العالمي مسؤولية العمل الإنساني بنفسه.
نحو نظام إنساني متوازن وشامل
تؤكد الأحداث الأخيرة والاستجابة الإنسانية غير الكافية في الجنوب العالمي الحاجة الملحة إلى نظام إنساني شامل وأكثر توازنًا، ويقدّر على نحو متساوٍ مساهمات الجهات الفاعلة في كل من الجنوب والشمال العالمي. ولإنشاء نظام إنساني فعّال بدلًا من نظام يهيمن عليه أحد الطرفين، فإن وجود رؤية "إنسانية" مشتركة هي الخطوة الأولى والأهم. ويُعد تعزيز دور الجنوب العالمي، مع ضمان التزام الشمال العالمي وسياساته، أمرًا محوريًّا للانتقال نحو نظام شامل وأكثر توازنًا.
وتشير الديناميات المتطورة بين هذه الجهات الفاعلة إلى تحول محوري في المشهد الإنساني العالمي، حيث تتخذ الجهات الفاعلة في الجنوب العالمي خطوات حاسمة لفرض نفوذها، وتقويض هيمنة الشمال على النظام الإنساني الدولي. وفي حين أن هذا التحول في القوة قد يفرض تحديات فإنه يحمل في طياته إمكانية معالجة التفاوتات الهرمية طويلة الأمد، وتعزيز العمل الإنساني الأكثر شمولًا وفعالية في جميع أنحاء العالم، وخاصة في الجنوب العالمي. ولتحقيق هذه الغاية من الضروري أن تُعامَل الجهات الفاعلة في المجال الإنساني من الشمال والجنوب كشركاء متساوين.
وبينما يتعين على الشمال العالمي أن يعطي الأولوية للطبيعة الإنسانية للنظام من خلال تعزيز اللامركزية، ولا سيما بإزالة الطابع السياسي، وضمان إعطاء الأولوية للمبادئ الإنسانية الأساسية في جميع الجهود، فإنه يتعين على دول الجنوب العالمي أن تعمل معًا من خلال الاستفادة من آليات التمويل المشترك، وإنشاء كيان إنساني حكومي دولي خاص بالجنوب العالمي، وتكييف النظام الإنساني لضمان فعاليته في هذه السياقات، وهذا من شأنه أن يعزز استجابتها الجماعية للأزمات الإنسانية ويعالج إشكالية المساعدة غير الكافية في المنطقة، ومن ثم إعادة التوازن إلى ديناميات النظام. ويمكنهم العمل معًا على تعزيز القدرات الإنسانية في جميع أنحاء العالم، وضمان تجهيز النظام على نحو أفضل لتلبية احتياجات الفئات الضعيفة، وتحقيق الأهداف الأساسية التي أُسس النظام الإنساني في الأصل من أجلها.