غزة (2023). تصوير وفاء عبر ويكيميديا كومنز.

تمثل هذه المقالة جزءًا من تقرير قائم، يُحدَّث دوريًّا، يقدم فيه محرر سلسلة "أفكار سريعة" في "مجلة جدلية" تعليقًا على الحرب في غزة. قد يظهر هذا التعليق أو لا يظهر في أي مكان آخر على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالمؤلف.

يُعَدُّ الطلب الذي قدمته جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية (ICJ) لاتهام إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، على حد علمي، الرابع فقط الذي تُتهم فيه دولة أمام هذه المحكمة بانتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، لعام 1948. أما الحالات الثلاث الأخرى فهي: البوسنة والهرسك ضد صربيا ومونتينيغرو (الجبل الأسود) (1993-2007)، وغامبيا ضد ميانمار (2019-)، وأوكرانيا ضد الاتحاد الروسي (2022-). وبعبارة أخرى، عُرضت القضية الأولى على المحكمة بعد أكثر من أربعة عقود من اعتماد الاتفاقية.

بطبيعة الحال، تختلف كل حالة اختلافًا كبيرًا عن الأخرى، ولم يصدر حكم نهائي إلا في حالة البوسنة، ولكن القضايا الأخرى تستحق الدراسة؛ في سبيل البحث عن مؤشرات يُستشَفُّ من خلالها كيفية تعامل المحكمة مع القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا.

ولا بد في البداية من توضيح أنني لست متخصصًا في القانون الدولي أو اتفاقية الإبادة الجماعية، إضافة إلى أنه لا بد من الأخذ في الحسبان أن هيكل المحكمة، فضلًا عن البيئة القانونية والسياسية التي تعمل فيها، قد تغير على مر السنين.

استمرت قضية البوسنة أربعة عشر عامًا منذ تقديمها عام 1993 حتى صدور الحكم النهائي فيها عام 2007؛ وذلك لعدة أسباب، من بينها الخلافات حول مكانة الأطراف ووضعهم كأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية بعد تفكك يوغوسلافيا. ولن تكون هذه الأمور محل نقاش في القضية الفلسطينية. ثانيًا، كان الاتهام الرئيس الذي قدمته البوسنة هو أن حكومة صربيا في بلغراد كانت مسؤولة عن قيادة قوات صرب البوسنة المنظمة داخل إطار جمهورية صربسكا، وهو ما أدخل عنصرًا معقدًا آخر لن يظهر في ادعاء جنوب أفريقيا ضد إسرائيل.

وتتمثل الملاحظة الأولى في أن المحكمة أصدرت تدابير مؤقتة (أشبه بأمر قضائي) في غضون أسابيع قليلة من الطلب الأوّلي الذي تقدمت به البوسنة في عام 1993، إلا أنها كانت ذات طابع عام إلى حد ما؛ إذ أوصت صربيا "باتخاذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية". وعلى الرغم من أن الحرب كانت مستعرة في جميع أنحاء البوسنة في ذلك الوقت، فإنها لم تتقدم بأي مطالب محددة في ما يتعلق- على سبيل المثال- بوقف فوري وشامل للأعمال العدائية. وقد يعكس هذا حقيقة مفادها أن المحكمة لم تحدد بعد ما إذا كانت صربيا اضطلعت بمسؤولية قيادة قوات جمهورية صربسكا أم لا.

وتتعلق الملاحظة الثانية بالحكم النهائي الذي أصدرته المحكمة في عام 2007؛ فبعد النظر في جميع الأدلة، التي كانت ضخمة بالنظر إلى الوثائق التي جُمعت وأُتيحت للمحكمة من قبل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، قررت محكمة العدل الدولية أن مذبحة سربرنيتسا عام 1995 فقط هي التي يمكن أن تعد عملًا من أعمال الإبادة الجماعية. ولم تقيّم المحكمة المجازر العديدة الأخرى، أو عمليات الاغتصاب الجماعي، أو معسكرات الاعتقال، التي نظرت فيها على أنها إبادة جماعية. وعندما رأت المحكمة أن معايير النية غير مدعومة بأدلة كافية، أو أن هناك بديلًا معقولًا واحدًا على الأقل للإبادة الجماعية بوصفه دافعًا لارتكاب فظائع معينة، رفضت الادعاء بأن هذه الأفعال تمثل أعمال إبادة جماعية. ومن غير الواضح بالنسبة لي ما إذا كانت المحكمة ستصنف الحملة العسكرية برمتها، لا الأفعال الفردية، على أنها إبادة جماعية لو أنها توصلت إلى استنتاجات مختلفة حول أحداث أخرى، ولكن لا أظن ذلك.

ونظرًا إلى أن القضية قد رُفعت أمام محكمة العدل الدولية عملًا باتفاقية الإبادة الجماعية، ولأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية تقع خارج نطاق اختصاصها، فإن المحكمة لم تتوصل إلى أي استنتاجات أخرى في ما يتعلق بالأفعال التي قررت أنها لا تتسم بطابع الإبادة الجماعية.

وعمومًا، حذت محكمة العدل الدولية في أحكامها حذو المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY). وهذا يشير إلى إمكانية أن تنظر المحكمة، عند الفصل في ادعاءات جنوب أفريقيا، في الاستنتاجات التي توصل إليها التحقيق في "الوضع في فلسطين" الذي أجراه مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية. وإذا كان الأمر كذلك فسوف يستغرق ثلاث دقائق كاملة للقيام بذلك؛ لأنه على الرغم من الادعاءات والبيانات الصحافية، فلا يوجد تحقيق للمحكمة الجنائية الدولية، ومن ثم لا يمكن التوصل إلى استنتاجات يمكن أخذها في الحسبان. وبناء عليه هل يجبر مثل هذا السيناريو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، على البدء بأخذ وظيفته ومسؤولياته على محمل الجد والاضطلاع بواجباته؟ لا تؤمل كثيرًا فسيخيب أملك.

ووجدت المحكمة أيضًا أن صربيا لم تكن مسؤولة عن أعمال الإبادة الجماعية التي ارتكبتها قوات جمهورية صربسكا في سربرنيتسا، لأنها لم تمارس مسؤولية القيادة عليها. واللافت في هذا الصدد هو الرأي المخالف لنائب رئيس محكمة العدل الدولية الأردني القاضي عون الخصاونة. إذ رأى الخصاونة أنه، بتجاوز المتطلبات الصارمة المتعلقة بالنية التي تفرضها اتفاقية الإبادة الجماعية، اختارت الأغلبية اعتماد معايير عالية غير واقعية، وكان بإمكانها- بل وينبغي لها- استنتاج النية من السلوك إلى حد أبعد مما فعلت.

وأضاف الخصاونة أن زملاءه كانوا سيتوصلون إلى نتيجة مختلفة لو أنهم تمكنوا من الوصول إلى الأقسام "المنقحة" من الوثائق المقدمة من مجلس الدفاع الأعلى في صربيا، مبينًا أن لديهم "السلطة للقيام بذلك".

أولئك الذين يعتقدون أن جنوب أفريقيا لا تحتاج إلا إلى تقديم كم هائل من الحقائق المتاحة إلى محكمة العدل الدولية لإثبات قضيتها، يحسنون صنعًا بقراءة معارضة الخصاونة، هذا فضلًا عن أن أصدقاء صربيا في المحكمة أقل بكثير من أصدقاء إسرائيل.

 

وفي قضية ميانمار، التي لا تزال مستمرة منذ عام 2019، والتي تتعلق بادعاء غامبيا بأن ميانمار ارتكبت إبادة جماعية ضد الروهينغا في ولاية راخين التابعة لميانمار، فقد أُصدرت تدابير مؤقتة أيضًا في غضون أسابيع من الطلب الأولي، وكما هو الحال في حالة البوسنة كانت هذه التدابير ذات طابع عام أيضًا، ولكنها عكست بدقة الطابع العام لطلبات غامبيا. (ملحوظة: قبلت المحكمة استناد غامبيا إلى مسؤولياتها في منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها من قبل الموقعين الآخرين على الاتفاقية، على الرغم من أنها لم تتأثر تأثرًا مباشرًا بما فعلته ميانمار، وكان ذلك بمنزلة نموذج لإجراءات جنوب أفريقيا ضد إسرائيل).

ومما يثير مزيد اهتمام بهذه القضية أن غامبيا حددت "عمليات التطهير" التي تقوم بها ميانمار، والتدمير المنهجي لقرى الروهينغا بهدف "إخراجهم من ميانمار"، على أنها دليل على نية وسياسة الإبادة الجماعية، على الرغم من أن المندوبين الذين وضعوا الصيغة النهائية للاتفاقية في عام 1948 استبعدوا التطهير العرقي على وجه التحديد من تعريف الإبادة الجماعية. وإذا رأت محكمة العدل الدولية أن هذه الأعمال تبرهن على وجود نية لمحو هوية الروهينغا، ومن ثم فهي بالفعل إبادة جماعية، فقد يكون لذلك آثار على تقييمها لتصرفات إسرائيل في قطاع غزة، والتي شملت التدمير المنهجي للقطاع بأكمله، إلى حد أنه يبدو الآن مختلفًا عند النظر إليه من الفضاء.

 

أما الجانب الثاني الجدير بالملاحظة فهو أن كندا والدنمارك وفرنسا وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة قدمت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023- أي قبل شهر واحد فقط من إطلاق جنوب أفريقيا قضيتها ضد إسرائيل - قدمت إعلانًا مشتركًا إلى محكمة العدل الدولية يدعم مزاعم غامبيا ضد ميانمار. وقد أدلت هذه الحكومات، في إعلانها المشترك، ببيانات عديدة تكشف عن تفسير موسع للإبادة الجماعية وتطبيق اتفاقية الإبادة الجماعية.

وأنا أتصور أنه سيكون من الصعب جدًّا عليهم عكس مسارهم والقول إنهم لم يقصدوا حقًّا ما قالوه؛ من أجل ضمان عدم تطبيق ملاحظاتهم وتحليلاتهم على إسرائيل. ولكن كما هو الحال دائمًا عند التعامل مع الحكومات الأوروبية، فإن افتراض الاتساق والمبدأ على مسؤوليتك الخاصة؛ فعلى سبيل المثال أدانت ألمانيا بالفعل، بكل غطرسة، طلب جنوب أفريقيا، ومن بين هذه الحكومات فإن كندا هي الوحيدة التي قدمت دعمها العلني لمحكمة العدل الدولية (في حين أشارت إلى أن هذا لا يعني أنها تدعم قضية جنوب أفريقيا). وبالنظر إلى أن الانتخابات الهولندية الأخيرة فاز بها خيرت فيلدرز، وهو شخص غير مسؤول يعتقد أن الأردن هو فلسطين، ومؤيد لإسرائيل عامة،  فلا تتفاجؤوا إذا تولى فيلدرز قيادة الحكومة الهولندية أن تطرد محكمةَ العدل الدولية من هولندا في حال استمرت في هذه القضية؛ إذ عندما يتعلق الأمر بإفلات إسرائيل من العقاب فإن كل شيء مباح.

أما أحدث القضايا فهي تلك التي أطلقتها أوكرانيا ضد روسيا في عام 2022. وكما هو الحال في قضية ميانمار، لا تزال هذه القضية قائمة، ومع ذلك فقد أثارت بالفعل العديد من النقاط المهمة.

ففي البداية أصدرت المحكمة في هذه القضية تدابير مؤقتة تجاوزت الالتزام العام بعدم انتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية، ودعت روسيا على وجه التحديد إلى "التعليق الفوري" لعملياتها العسكرية داخل الأراضي الأوكرانية. وثانيًا، أصدرت المحكمة بعد أسبوع واحد مجموعة جديدة من التدابير المؤقتة لتسريع النظر في القضية.

وتختلف قضية أوكرانيا إلى حد ما عن القضايا الأخرى، إذ إن أوكرانيا لا تتهم روسيا بارتكاب جرائم إبادة جماعية، بل إنها ترفض الاتهامات التي وجهتها لها روسيا في تصريحات رسمية متعددة، ولكن ليس أمام محكمة العدل الدولية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية. وأيضًا، تزعم أوكرانيا أن روسيا اتهمتها زورًا بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وأن روسيا تستخدم هذا الادعاء الكاذب مبررًا لغزوها لأوكرانيا، وعلى هذا الأساس طالبت بإنهاء العمليات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا كإجراء مؤقت.

وخلصت المحكمة إلى أن أوكرانيا قدمت حجة معقولة مفادها أنها ليست متورطة في الإبادة الجماعية، وقررت اتخاذ تدابير مؤقتة وفقًا لذلك. بالإضافة إلى ذلك، اعتبرت المحكمة أنه من "المشكوك فيه" أن تجيز اتفاقية الإبادة الجماعية استخدام القوة من جانب واحد ضد دولة أجنبية لإنفاذ الاتفاقية. وهذا ما يفسر أمر وقف إطلاق النار الصريح، الصادر لروسيا وحدها، مقارنة بالتدابير المؤقتة الأكثر عمومية التي أصدرتها المحكمة في القضايا الأخرى. وعلى غرار إسرائيل خلال الرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية عام 2004 بشأن جدار الضفة الغربية، اختارت روسيا عدم المشاركة في الإجراءات، ومن ثم لم تكن في وضع يسمح لها بالاعتراض على ادعاءات أوكرانيا المختلفة.

وبناء عليه ففي حين دعت جنوب أفريقيا إلى وقف النشاط العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة، فإن قبول المحكمة لهذا الطلب سيكون لأسباب مختلفة تمامًا عما كان عليه الحال في قضية أوكرانيا. وبعبارة أخرى، فإن التدابير المؤقتة التي اعتمدتها محكمة العدل الدولية في أوكرانيا لا تشكل سابقة كبيرة بالنسبة لغزة.

ومن المثير للاهتمام أن المحكمة رفضت تدخل الولايات المتحدة في قضية أوكرانيا في هذه المرحلة من الإجراءات (ليس من الواضح ما إذا كان كليًّا أو جزئيًّا)، على أساس أن واشنطن أبدت، في عام 1948، تحفظًا عند تصديقها على الاتفاقية، مفاده أنه يجب الحصول على موافقتها السابقة لمشاركتها في أي قضية لاحقة، يبدو أنها نسيت أن تقدم تلك الموافقة، أو شيء من هذا القبيل. ولا شك أن فريق بايدن سيكون أكثر اجتهادًا عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن ربيبه المفضل.

قد تكون الحالات المذكورة أعلاه ذات صلة وقد لا تكون كذلك في ما يتعلق بمطالبات جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، ولكنها معلومات مفيدة على أي حال. وجميع الوثائق المذكورة متاحة على الموقع الإلكتروني لمحكمة العدل الدولية، وهي تستحق القراءة.