مسؤولون من الاتحاد الأفريقي يحضرون اجتماع الآلية الموسعة بشأن أزمة السودان في مقر الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا في 2 مايو 2023 [أمانويل سيليشي / وكالة الصحافة الفرنسية]

نُشر هذا المقال في الأصل باللغة الإنجليزية على موقع الجزيرة 

مع توقف مفاوضات وقف إطلاق النار بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، التي جرت برعاية الولايات المتحدة والسعودية في نهاية الأسبوع الماضي، تدخل الاتحاد الأفريقي مقترِحًا آلية موسعة بشأن أزمة السودان، وتتمثل في تأسيس هيئة مؤلفة من مسؤولين وخبراء في الاتحاد الأفريقي جرى الإعداد لها في نيسان/ أبريل، لتتولى مسؤولية التفاوض على حلٍّ للصراع في السودان.

ثمة ناحية إيجابية في هذا التطور تتمثل في أنه يدل على استباقية النشاط الإقليمي التي يتميز بها كل من الاتحاد الأفريقي والهيئات الإقليمية، مثل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (IGAD) في شرق أفريقيا، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS) في غرب أفريقيا، خلال العقود الأخيرة. وقد قادت تلك الهيئات عمليات صنع السلام وحفظ السلام في القارة، وعملت على تعزيز الديمقراطية وحمايتها.

لكن ثمة أيضًا زاوية أخرى لهذا التطور، وهي "التملُّص الدولي"؛ إذ عادة ما يناصر المجتمع الدولي عمليات حفظ السلام عندما تكون مبشِّرة، في حين "يوكل العمل" إلى هيئة إقليمية عندما لا تبدو الأمور على ما يرام.

ويبدو أن هذا ما يحدث الآن في السودان؛ فبعد اندلاع الصراع تولت زمام الأمور المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة – وهما جزء من "الرباعية" (إلى جانب الإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة)- في محاولة للتفاوض على وقف إطلاق النار. وقد جاء هذا التدخل على نحوٍ مفاجئ، تمامًا مثلما كان تعليق المحادثات الأسبوع الماضي مفاجئًا.

لذا فقد جاء تدخل الاتحاد الأفريقي وسط "حالة تملُّص" واضحة، وأصبحت أكثر وضوحًا بعد هجرة الدبلوماسيين الجماعية الأخيرة، وغيرهم من الأجانب المقيمين في الخرطوم، وهذا يؤكد فشل مبادرات المجتمع الدولي السابقة.

لقد تفجر النزاع الأخير بسبب عملية فاشلة لإعادة البلاد إلى الحكم المدني قادتها الأمم المتحدة،بعد الانقلاب الذي نفذه الجيش السوداني في تشرين الأول/ أكتوبر 2021. إذ رعت الأمم المتحدة، في كانون الأول/ ديسمبر، اتفاقية إطارية هشة بين الجيش والقوات المدنية، أخفقت في إعادة البلاد إلى مسار الانتقال.

يمكن أن تُسوَّد مجلدات كاملة في الحديث عن حالات الحماقة والغطرسة والتهور التي حولت "الحكم المدني" الموعود إلى منافسة على السيادة بين الفصائل العسكرية. هذا هو الإرث الذي تركه "المجتمع الدولي" الهارب للسودان وشعبه.

كانت كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي يسعيان إلى تحقيق النجاح السريع والمجد الشخصي، وهو ما دفعهم إلى الخوض في صفقات رديئة تحقق قبولًا آنيًّا لكنها تزيد من معاناة البلدان المعنية. وأقرب مثال على ذلك صفقة تقاسم السلطة المخزية بين الفصائل العسكرية والمدنية المدرجة في الإعلان الدستوري الصادر في آب/ أغسطس 2019، والتي قادها الاتحاد الأفريقي.

إذ أهملت تلك الصفقة العديد من القضايا المهمة دون التوصل إلى حلول لها، ومن بينها قضية التحقيق في مذبحة حزيران/ يونيو 2019، وقضية إسناد الأدوار إلى الفصائل العسكرية المتنافسة، وإشراك الفئات التي أقصيت في الصفقة السابقة.

ومثلما كان اتفاق السلام الشامل لعام 2005، الذي أنهى الحرب الأهلية السودانية الثانية ومهد الطريق لاستقلال جنوب السودان، فقد اتسم اتفاق آب/ أغسطس 2019 بـ"التدرج"، وانضوى على التزامات متناقضة مع الأهداف، وجداول أعمال غير متوافقة، وهو ما أدى إلى "إثارة الحرب بطرق أخرى".

تنطوي خارطة الطريق التي أعلن عنها الاتحاد الأفريقي مؤخرًا لحل الصراع في السودان على مشكلات داخلية مماثلة يجب معالجتها.

فقد نصّ الإعلان على أربعة أهداف رئيسة: وقف إطلاق نار فوري غير مشروط، واستجابة إنسانية جيدة التنسيق، وحماية المدنيين والبنية التحتية المدنية، وعملية سياسية شاملة. إلا أن الخطوات الموضحة في خارطة الطريق تسيء تفسير المشكلة الأكثر إلحاحًا، وهي أن العاصمة السودانية الخرطوم أصبحت غير صالحة للسكن، وأن الدولة السودانية قد فقدت السيطرة.

وبينما كانت مشكلة المدنيين في البداية هي عدم قدرتهم على الخروج من منازلهم بسبب القتال الجاري، أصبحت الاعتداءات على المنازل اليوم تجبر سكانها على النزول إلى الشوارع، تحت تهديد السلاح في كثير من الأحيان.

غادر مئات الآلاف إلى الريف أو إلى أطراف العاصمة، وتمكن القادرون على تحمل تكلفة السفر الباهظة من الوصول إلى بورتسودان أو الحدود المصرية، باحثين عن ملاذ في الخارج.

وتعد قوات الدعم السريع المتهم الرئيس في ارتكاب الجرائم كالاغتصاب والخطف والانتهاكات المنزلية، ومداهمة المستشفيات ومحطات الطاقة ومرافق ضخ المياه واحتلالها، إلى جانب مهاجمة الجامعات والمواقع الثقافية مثل المتحف الوطني.

قلّما تنتشر قوات الدعم السريع بعيدًا عن الخرطوم والمنطقة الغربية من دارفور، وإن وُجدت فغالبًا ما تكون مقموعة، لذا يشعر الناس بشيء من الأمان هناك خلال ممارسة أعمالهم اليومية.

انطلاقًا من ذلك كله فإن توصيف الأزمة السودانية على أنها حالة نزاع بين أطراف متساوية في الشرعية أو في عدمها أمرٌ مضلِّل بالتأكيد، وبناء عليه فإن المطالبة بوقف إطلاق نار فوري وغير مشروط لن تحقق أيًّا من أهداف الاتحاد الأفريقي الأخرى مثل الاستجابة الإنسانية الناجحة، وحماية المدنيين والبنية التحتية، واستئناف أي عملية سياسية، سواء كانت شاملة أم لا.

بل إن وقف إطلاق النار غير المشروط سيترك المدنيين لهمجية قوات الدعم السريع، وإنه لمن غير الواقعي أن نتحدث عن عملية سياسية في جو من الإرهاب وفي ظل غياب النخبة المهنية والفكرية والسياسية.

إن المطلوب اليوم هو ممارسة ضغط دولي قوي على قوات الدعم السريع لكي تخلي المستشفيات والمنازل الخاصة والمرافق الأخرى التي احتلتها بشكل غير قانوني، وتتوقف عن سرقة البنوك وسرقة الممتلكات الخاصة وترهيب المدنيين واحتجازهم واغتصابهم وتعذيبهم وقتلهم.

يجب تطبيق تهديدات حقيقية، وعدم الاكتفاء بعقوبات لا معنى لها مثل رفض التأشيرة؛ إذ إن مجرمي الحرب غير مهتمين أصلًا بالحصول على تأشيرات دخول إلى نيويورك بأسمائهم الحقيقية. فيجب أن تشمل التهديدات تقديم المساعدات، التي من ضمنها المعلومات الاستخباراتية أو المعدات، إلى الدولة السودانية؛ لحماية المدنيين والمنشآت المدنية والممتلكات الخاصة والسفارات والبعثات الدولية.

وقد فرض إعلان جدة للالتزام بحماية المدنيين في السودان، الذي وُقِّع في 11 أيار/ مايو، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع "بإخلاء المرافق العامة والخاصة، مثل المستشفيات ومنشآت المياه والكهرباء، واحترامها وحمايتها، والامتناع عن احتلالها، وعن استخدامها لأغراض عسكرية". ويجب أن يكون هذا شرطًا لأي اتفاق وقف إطلاق نار مستقبلي.

لقد تسببت الفوضى التي تثيرها قوات الدعم السريع بحالة شلل مؤقت أصابت الدولة، وقد تؤدي بها قريبًا إلى انهيار كامل، ومن ثم تفتيت البلاد وانهيار القانون والنظام. وستكون تكلفة مثل هذا السيناريو باهظة، لا على الشعب السوداني فقط، بل على المنطقة والعالم أجمع.

يجب تعلم الدروس من الإخفاقات السابقة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في السودان وأماكن أخرى، والاستفادة منها خلال عملية المفاوضات. وهذا يقتضي استبعاد مسؤولي الاتحاد الأفريقي غير الأكفياء والبيروقراطيين في الأمم المتحدة من العملية، خاصة أولئك الذين لديهم سجل من الإخفاقات المتتالية. فلا داعي لـ"إعادة تدوير" أخطاء مَهمّةٍ ما في مَهمة أخرى.

ويبدو أن الآلية الموسعة التي لم تتضح معالمها بعد، والتي يقودها رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي، ويدعمه فيها اثنان من مسؤولي الاتحاد الأفريقي وفريق عمل مكون من خبراء أفارقة تنذر بأن تكون عقبة أكثر منها أداة للحل.

المشكلة تكمن في الاعتبارات الدبلوماسية بين الدول ومحاولات استرضاء الخصوم المحتملين؛ فهناك ما لا يقل عن 28 طرفًا منخرطًا في القضية، ومن بينها الدول الإقليمية وأعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والمنظمات والهيئات الإقليمية، ومن ثم فإن تضارب الأجندات يزيد من صعوبة إجماع الآراء أو يقيد مرونة تطبيقها في حال إجماعها. والشعب السوداني غير قادر على تحمل هذه المساومات المحتملة في خضم المعاناة التي يعيشها.

لذا يتعين على الاتحاد الأفريقي إعادة التفكير في آليته الموسعة صعبة التطبيق، وتعيين عدد قليل فقط من المسؤولين الأكفياء لتشكيل فريق صغير ذي فاعلية حقيقية يمكنه العمل مباشرةً على خفض التصعيد.

يجب عليهم التركيز على إرسال مراقبين على الأرض لمراقبة الانتهاكات والإبلاغ عنها، والتوصية بالحلول، وبتكثيف الضغط الدولي على قوات الدعم السريع للانسحاب من المناطق المدنية.

وهذا من شأنه أن يمهد الطريق للوصول إلى وقف إطلاق نار حقيقي يحصر قوات الدعم السريع في مواقع محددة خارج العاصمة الخرطوم، وهو ما يسمح للدولة السودانية باستعادة مظاهر القانون والنظام.

وهكذا سيتمكن عناصر الشرطة والعاملون في المجال الطبي والموظفون المدنيون من استئناف مهامهم، وستعود الشركات والبنوك والمتاجر والأسواق للعمل مرة أخرى. وكذلك يجب أن تفتح المدارس والجامعات مرة أخرى، إذ للمرة الأولى في تاريخ السودان الحديث لا توجد مدرسة واحدة مفتوحة في البلد كله!

عندئذٍ يحين وقت الخطوة التالية المتمثلة في بذل جهود دولية متواصلة لاستعادة الخدمات وإعادة تأهيل المستشفيات، والسماح لسكان الخرطوم بالعودة إلى منازلهم واستئناف حياتهم.

في نهاية المطاف، يجب دعم السودانيين في تنظيم مؤتمر وطني شامل يضم ممثلين عن كل الجماعات السياسية ومجموعات المجتمع المدني، لمناقشة القضايا الرئيسة المتعلقة بالمستقبل السياسي للبلاد وحلها. كما يجب أن تجري العملية بقيادة سودانية تستبعد الجيش وتضمن عدم تمكن أي فصيل سياسي أو تحالف واحد من احتكاره، ويجب أن يكون التدخل الأجنبي، ومن ضمنه تدخلات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، في حده الأدنى.

يجب أن تشمل مهام المؤتمر الوطني انتخاب حكومة وحدة وطنية تشرف على مرحلة انتقالية مدتها سنتان، مع التركيز على وضع دستور انتقالي، وتعيين مفوضية انتخابية، وإقرار قانون انتخابي، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة لاستعادة الوضع الطبيعي المتمثل بالديمقراطية والسلام في البلاد.

أما إذا قرر الاتحاد الأفريقي الاستمرار على نهجه وتكرار نفس أخطاء الماضي فستبوء جميع جهوده في السودان بالفشل، وهذا يعني المزيد من المعاناة والموت والدمار في حياة السودانيين.