متظاهرون يحضرون "مسيرة العودة" ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ، في وارسو ، بولندا في 14 مايو 2023 (رويترز)

تم نشر هذه المقالة بالأصل باللغة الانجليزية على موقع ميدل إيست آي


مضى عامٌ على اغتيال شيرين أبو عاقلة، وعامان على حرب أيار/ مايو 2021، وخمسةٌ وسبعون عامًا على النكبة، وما تزال إسرائيل ماضيةً في نهجها القائم على استخدام العنف الهمجي ضد فلسطين، متذرعة بحجة الأمن.

اتسمت عمليات العنف التي استمرت خمسة أيام، والتي أطلق عليها اسم "عملية الدرع والسهم"، بعودة إسرائيل إلى سياسة الاغتيالات، ويبدو أن هذا ما أراده إيتمار بن غفير، في محاولة من الحكومة الإسرائيلية "التي لا تُقهر" لإعادة ترسيخ قوتها في الردع.

بل إنَّ جولات العدوان الأخيرة في الأعوام 2021 و2022 و2023، التي نُفِّذت بعد سبع سنوات من توقف الاشتباكات الكبرى بين عامي 2015 و2021، إنما كانت تستهدف إضعاف الفصائل الفلسطينية، وهذه المرة حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية على وجه الخصوص، ومن ثم التفاوض لاحقًا للتوصل إلى وقفٍ لإطلاق نار يبقي على الوضع الراهن الجديد بما يحافظ على المكتسبات التي تحققت.

وقد تمكن وزير الأمن القومي، بن غفير، حاليًّا من احتجاز الحكومة رهينةً مقابل الحصول على فدية، ألا وهي القيادة الفلسطينية في غزة. وهذا يدل على أن السياسات الانتخابية الإسرائيلية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي.

فقد واجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تحديًا تمثل في ضرورة موازنة أجندته مع أجندة بن غفير من أجل البقاء في السلطة. ويمكن أن تعد محاولة الإصلاح القضائي مثالًا آخر على تحقيق هذا التوازن؛ فلو لم تقم مثل هذه الإصلاحات لكان من المحتمل أن ينهار الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، ومن ثم يحال رئيس الوزراء المتورط إلى مقاعد المعارضة، وربما يرسَل إلى عالم القضاء المجهول بسبب تهم الفساد الموجهة إليه؛ إذ أصبح موقفه الانتخابي أكثر حرجًا بعد أن أظهرت بعض استطلاعات الرأي التي أجريت قبل عدوان هذا الشهر أن حكومته لم تلقَ الشعبية الكافية، ومن ثم فقد وجد نتنياهو نفسه مضطرًا إلى أن يخوض معركة البقاء السياسي مجددًا.

ومع هذا كله فلا يمكن لعودة سياسة الاغتيالات أن تقمع عمليات المقاومة الفلسطينية أو تحد منها؛ إذ على الرغم من أن هذه السياسة تسببت في مقتل العديد من القادة البارزين في الفصائل الفلسطينية- وكان من أبرزهم مؤسسو الفصائل العسكرية- لا تتوانى الفصائل في قطاع غزة عن بذل الجهود في تجهيز وتطوير العتاد لمقاومة إسرائيل، حتى ولو كان أقل كفاءة مما لدى الإسرائيليين؛ إذ ليست غايتهم التسبب بالقتل بالضرورة، ولكن على الأقل جعل تكلفة الهجوم على قطاع غزة مرتفعة، وهذا من شأنه منع مزيد من الاعتداءات الإسرائيلية. فالصواريخ أو القذائف التي تنطلق من غزة قد لا تصيب "هدفًا" بعينه، لكنها تكبِّد العدو تكلفة تصل إلى 180 ألف دولار لكل مرة تصد فيها صاروخًا من القبة الحديدية، وما يقرب من مليون دولار لكل صاروخ تصدّه منظومة "مقلاع ديفيد"، في حين لا تتعدى تكلفة الصاروخ الواحد الذي تصنعه الفصائل الفلسطينية 800 دولار، ومن ثم فقد عانى الاقتصاد الإسرائيلي خلال عدوان أيار/ مايو 2021 من خسائر تراوحت بين 368 مليون دولار و2.5 مليار دولار.

الوساطة من أجل "التهدئة"

يجد أهالي غزة، وفلسطين عامة، أنفسهم محرومين من أي سبل دولية تمكّنهم من طلب المساعدة أو التدخل أو تحقيق العدالة، وذلك يعود في المقام الأول إلى سياسة الغرب التي تقضي باستبعاد سلطة الأمر الواقع في غزة (حماس) من الساحة الدولية، مع السماح بقدر ضئيل من التواصل بينها وبين مصر وقطر، وهما الدولتان الوسيطتان المستمرتان في غزة.

حتى "التهدئة" التي يجري التوسط من أجل إحلالها بعد هذه الهجمات الإسرائيلية ما هي إلا شكل مختلف من أشكال العنف ضد قطاع غزة – عنف هيكلي واقتصادي – لا يؤدي إلا إلى تفاقم الأوضاع المعيشية المتدهورة في القطاع.

فبينما يتجمع سكان غزة لالتقاط أنفاسهم بعد جولة أخرى من القصف التي أعقبها وقف إطلاق النار، يُطرح السؤال الحتمي ذاته: متى ستكون الموجة التالية من العدوان الإسرائيلي؟ سؤال يظل يدور في خَلَد السكان بلا توقف. حتى مع وجود ضامن أمني – في العادة مصر – للتوسط ودعم وقف إطلاق النار، فليس ثمة كثير مما يمكن فعله لردع اعتداءات الدولة الإسرائيلية.

وبناء عليه فإن مدة وقف إطلاق النار قد تكون قصيرة، ولا مفر من اندلاع موجة عدوان جديدة على قطاع غزة؛ إذ نصَّ آخر اتفاق لوقف إطلاق النار، الذي دخل حيز التنفيذ في 13 أيار/ مايو، على أن "يلتزم الطرفان بوقف إطلاق النار الذي سيشمل... وقف استهداف الأفراد فور دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ".

وحتى عندما أعلن ممثلو حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين أن اتفاق وقف إطلاق النار يلزم إسرائيل بعدم العودة إلى سياسة الاغتيالات، نفت بعض المصادر الأمنية الإسرائيلية أن يكون هذا الالتزام منبنيًا على الاتفاق.

لذا فإن من السذاجة الاعتقاد بأن دولة إسرائيل لن تشن هجومًا آخر عندما ترى أنه ضروري لمصالحها، والدليل على ذلك أن وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، قال إنه "سيأتي وقتٌ لن يكون أمامنا خيار سوى إعادة احتلال غزة".

غياب الإرادة السياسية

وكذلك من السذاجة الجلوس مكتوفي الأيدي وانتظار الحكومات والدول الأخرى للوقوف في وجه ظلم المحتل؛ ببساطة لأنهم عندما يريدون فإنهم قادرون على اتخاذ إجراءات سريعة ومواقف حاسمة ضد مثل هذه الاعتداءات، وقد رأينا ذلك في سياقات أخرى، لكن الحقيقة أن الإرادة السياسية للقيام بذلك غائبة تمامًا، فالنسبة إليهم تخفيف معاناة الفلسطينيين لا يستحق عناء مواجهة مباشرة مع الحكومة الإسرائيلية.

لكن الغياب الواضح للمساءلة، سواء من طرف المجتمع الإسرائيلي أو المجتمع الدولي، يؤكد الطابع المتكرر للاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، والطبقة الحاكمة في إسرائيل، بكل توجهاتها الفكرية؛ من "اليسار" إلى "اليمين"، أشادت بتلك الهجمات.

ولا غرابة أن يدافع الناخبون الإسرائيليون عن الديمقراطية والحياة بكرامة عندما يتعلق الأمر بالإصلاح القضائي، ويغضوا الطرف عنها عندما تخالف الحكومة الإسرائيلية القانون الدولي، سواء عند التوسع الاستيطاني أو من خلال تطبيق سياسة الفصل العنصري.

كيان متعاون

ويواجه الشعب الفلسطيني أيضًا كيانًا سياسيًّا متواطئًا، وهو السلطة الفلسطينية، التي تخضع للحكم الإسرائيلي ورقابته، والتي لا تسمح للمواطن الفلسطيني بإبداء رأيه في رسم سياساتها أو المشاركة في تكوينها.

فها قد قتل في غزة 33 شخصًا خلال جولة العدوان الأخيرة، لينضموا إلى أكثر من 100 فلسطيني قتلوا على يد الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية عام 2023، فماذا يمكن للسلطة الفلسطينية أن تفعل حيال ذلك؟ لا شيء إطلاقًا. إذ ماذا يمكن أن يفعل كيان سياسي فارغ بعد أن جرد نفسه من أي قوة أو شرعية حقيقية بتسليمها لسلطة احتلاله؟

هذا وإن التصور الدولي "للمشكلة" الفلسطينية خاطئ أصلًا، وهو متجذر في فهمه لمفهوم هذا "الصراع". إن التصوير المستمر للقضية الفلسطينية على أنها "نزاع" أو "صراع" يعني ضمنيًّا أن هناك "طرفين متساويين" إلى حد ما، وبالتأكيد هذا ليس حال القضية الفلسطينية؛ بل يوجد "طرف" مسلح حتى النخاع بأكثر من 3.8 مليارات دولار من المساعدات العسكرية الأميركية السنوية، وطرف آخر عبارة عن قطاع محاصر ومعزول دوليًّا، ولا يحق له سوى استيراد المواد التي لا تكاد تنقذ الحياة، وبإذن من "الطرف" الآخر.

إن تصويرًا كهذا لا يقدم شيئًا سوى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتحويلهم إلى أهداف مشروعة لإسرائيل، التي تنعت الفلسطينيين بـ"الإرهابيين" من أجل تبرير وحشية عملياتها العسكرية، أما من هم في الحقيقة "أبرياء" فتصورهم على أنهم مجرد "أضرار جانبية". لذا على الجمهور أن يكون واعيًا حيال اللغة المستخدمة في الصراع.

بناءً على ذلك كله، وفي خضم المواجهة مع مواقف الحكومات الغربية المتواطئة، ليس ثمة أي عذرٍ للجهل في العصر الحديث، المتّسم بقدر أكبر من الحرية في وسائل الإعلام، وبسهولة الوصول إلى الحقيقة من خلالها. ومن ثم فإن المسؤولية تقع على القارئ نفسه كي يتعلم ويسهم في زيادة الوعي حول محنة الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي يتجمع فيه العالم للاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين "للدولة الإسرائيلية"، والذكرى الخامسة والسبعين للنكبة الفلسطينية.