أشخاص يسيرون بين أشياء متناثرة في سوق الجنينة ، عاصمة غرب دارفور ، في 29 أبريل / نيسان 2023 ، مع استمرار القتال في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع

تم نشر المقال في الأصل باللغة الإنجليزية على موقع الجزيرة

نتيجة لسلسلة من الصراعات الدموية، وسوء القيادة، فضلًا عن تفشي الفساد داخل أجهزة الدولة، وحقبةٍ طويلة من العزلة الدولية والتراجع الاقتصادي المزمن، صنَّفت الدراسات الأكاديميَّة والتقارير الإعلامية السودان -لعقود- على أنه دولة هشّة أو فاشلة. فعلى سبيل المثال كان السودان من بين أكثر عشر دول هشَّة/ معرضة للانهيار، وفقًا لمؤشر صندوق السلام للدول الهشَّة، وذلك سنويًّا منذ انطلاقه عام 2006، ومن بين الدول الخمس الأولى 12 سنة على التوالي. على الرغم من كل هذه الظروف، وبفضل إصرار الشعب السوداني وكفاحه من أجل تحقيق ديمقراطية حقيقية، نجح السودان في تفادي الانهيار التام للدولة والانحدار نحو الفوضى الدمويَّة، حتى الآن.

اليوم، يرزح السودان تحت وطأة عدوان الميليشيات الغاشمة الشبيهة بتنظيم الدولة الإسلاميَّة، في ظل عدم استعداد المجتمع الدولي لاتخاذ الخطوات اللازمة لحماية أجهزة الدولة الهشَّة، ويواجه كدولة خطرًا محدقًا بانهيار أجهزته السيادية. ربما لن يكون هذا الاحتمال أو التصور مأساويًّا على الشعب السوداني فقط، وهو الذي ذاق الأمرَّين زمنًا طويلًا، بل قد يمتد الأثر إلى المنطقة بأسرها.

تسيطر قوَّات الدعم السريع- وهي مجموعة شبه عسكرية أُسست عام 2000 لمساعدة الرئيس السوداني عمر البشير، الذي طالت عهدته- في المحافظة على حكمه على مساحات كبيرة على امتداد الدولة. وتتكون الميليشيا إلى حد بعيد من مقاتلين عرب ينحدرون من مختلف أقطار المنطقة. وقد تمكنت من السيطرة على معظم أراضي دارفور، ومن بينها ولاية غرب دارفور، ونفذت حملة تطهيرٍ عرقي ضدَّ إثنية المساليت، السكان الأصليين للمنطقة. شمل ذلك الاغتيال المتعمد للقضاة، والمحامين، والأساتذة، وعمال الإغاثة، فيما يبدو وكأنه جهد ممنهج لقتل القادة الواعدين من المساليت.

كذلك فقد قتلت الميليشيا والي دارفور، خميس أبكر، ومثلت بجثمانه، عقب اتهامه لقوات الدعم السريع بارتكاب الإبادة في أثناء مقابلة تلفزيونية ناشد من خلالها المجتمع الدولي بالتدخل. وقد ذكرت التقارير أنَّ عناصر من أفراد الأمن الخاص به قد تعرضوا للأذى والانتهاك الجسدي حتى الموت.

وفي مدن دارفور السبعة التي تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع، عمد المقاتلون إلى قطع جميع خطوط الاتصال بالعالم الخارجي، ونهب وإحراق مخازن الغذاء، والتنكيل بالمدنيين. ولنا أن نتخيل حجم الرعب الذي ما يزال يخيِّم في تلك الأماكن بعيدًا عن أعين المجتمع الدولي.

تعاني العاصمة الخرطوم أيضًا من الدمار؛ حيث كانت مسرح قتال بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني منذ الـ15 من نيسان/ أبريل. وقد بسط مقاتلو الميليشيا سيطرتهم على المرافق العامَّة، ومن ضمنها المستشفيات، وسرقوا محتويات كل المخازن تقريبًا. وبالإضافة إلى ذلك تعرضت المكاتب الحكومية والمدنيَّة، والمحال التجارية بمركز المدينة، وكذلك المنازل الواقعة في أحياء سكنيَّة للطبقة المتوسطة، للنهب والتخريب حتى أضحت أثرًا بعد عين. وقد تسبب الرعب الهائل الذي بثته قوات الدعم السريع في المدينة في تعطيل عمل وسير هياكل ومؤسسات الدولة كليًّا؛ فالخدمات الحكوميَّة معطلة، بدءًا بجمع القمامة إلى الإسعاف الطبي، داخل المدينة وضواحيها، مع غياب ضوابط حركة المرور وتوقف المحاكم عن العمل. كما أن استصدار وثائق رسميَّة أساسية كشهادات الولادة أو الوفاة أو جوازات السفر أصبح غير ممكن.

فضلًا عن ذلك، جميع موظفي الخدمة المدنيَّة، من معلمين وأطباء وغيرهم من العاملين بقطاعات الدولة الحيوية، غادروا المدينة بحثًا عن وجهات أكثر أمانًا، سواء خارج البلاد أو عبر الهجرة الداخليَّة. وأقفلت المدارس والجامعات أبوابها، كما أنَّ معظم المباني الحكوميَّة دُمرت أو تستخدم كثكنات عسكريَّة لقوَّات الميليشيا. والآن، تبدو الدولة السودانية غائبة بصورة شبه تامة في العاصمة، بينما تمارس مهامها بالحد الأدنى في المناطق الأخرى.

ما من شك في أن هذه الأزمة ليست الأولى التي تهدد وجود السودان، فقد أحدقت بالبلاد أزمات شديدة التعقيد، وتعاظمت التهديدات التي ألمت بها، منذ نهاية الثمانينيات على الأقل، حين مرت البلاد بالعديد من المجاعات المميتة، وكثير من الأزمات الماليَّة التي كادت تجرُّ البلاد إلى الإفلاس، إضافةً إلى حروب أهليَّة منهكة.

وحتى في بداية التسعينيَّات، عندما استعر النزاع في الجنوب وفي دارفور، وأنهك نظام البشير القمعي البلاد على أصعدة عدَّة، صمد السودان وبقيت الحكومة تمارس مهامها بفعالية، فعلى سبيل المثال كان متوسط نمو الدخل القومي للبلاد يساوي قرابة ٦.٥ بالمئة بين عامي 2000 و2007.

وبطبيعة الحال، فإن تدهور الوضع الراهن اليوم هو نتيجة مباشرة لأخطاء ارتكبت في الماضي، فقد أدت عقود من سوء القيادة ضيقة الأفق -على الصعيدين الوطني والمحلي- بالسودان إلى حافة الهاوية.

في المجمل، فإن جذور الأزمة الراهنة كامنة منذ عهد عمر البشير، فقد سعى الأخير على مستوى شخصي إلى تكوين وتمكين قوات الدعم السريع، ورسخ ثقافة الإفلات من المحاسبة، والاعتماد على الجيش في كل صغيرة وكبيرة، وتغييب مؤسسات المجتمع المدني، وهو ما أدى إلى تمهيد الطريق لما نشهده اليوم من أحداث مأساويَّة.

منذ الإطاحة بالبشير عام 2019، فشل قادة الانتقال الديمقراطي في وضع البلاد على مسارٍ أفضل، وفي النهاية كادوا يحوّلون عقودًا من التنبؤات المبكرة حول فشل الدولة إلى حقيقة واقعة. فبدلًا من توسيع الإجماع المدني، أبرمت الأحزاب السياسية المهيمنة اتفاقًا إشكاليًّا مع الجيش، خاصة مع كون قوات الدعم السريع جزءًا رئيسًا من النظام السابق. وبالإضافة إلى ذلك، أهدر القائمون على السلطة الوقت في الجدال العقيم حول قضايا غير أساسية لمهمة الانتقال الديمقراطي، بدلًا من التركيز على صياغة الدستور وإعداد البلاد للديمقراطية. وبينما فوَّت المدنيون فرصتهم للإمساك بزمام عمليَّة الانتقال الديمقراطي، تعززت سيطرة الجيش على أجهزة الدولة. وقد أدى تخوف القادة المدنيين من الجيش إلى تقوية ميليشيا الدعم السريع، التي عدَّها كثيرون القوة الوحيدة في مواجهة ودرء خطر الجيش غير الموثوق به من قبلهم.

وبتشجيع من هذا البروز الجديد لقوات الدعم السريع، أصبحت اليوم تشن حرب إبادة جماعية بلا هوادة بحق الشعب السوداني. في حين أصبحت الدولة السودانية تكافح، ربما للمرة الأولى في تاريخها، من أجل بقائها بحد ذاته.

كل ما ذكر يضع القوى الدوليَّة والإقليميَّة التي تنبأت "بفشل" الدولة السودانيَّة أمام خيارات صعبة، ويوجب عليهم التخلي عن أوهامهم في أن قوَّات الدعم السريع هي فاعلٌ ذو جدوى في عملية الانتقال الديمقراطي، وتقبُّلَ وصف ما يقع على أنه جريمة كراهية قد تتصاعد إلى الإبادة الجماعيَّة، ومن ثم المطالبة بالتدخل الدولي على مستويات عدة، مما يمكن أن يكلفهم الكثير، من أجل إنقاذ دولة السودان.

رغم ذلك، فحتى الآن يصر الفاعلون الرئيسيون على تصنيف سطحي للأزمة القائمة؛ إذ يصفونها بأنها نزاع مؤسف بين طرفين متساويين في حجم الضرر الذي ألحقاه بالدولة، متغاضين عن نداءات السودانيين لتدخل بنّاء وهادف.

مؤخرًا، على سبيل المثال، انضمت بريطانيا إلى الولايات المتحدة في فرض عقوبات على الجيش السوداني، جنبًا إلى جنب مع قوات التدخل السريع، على إثر العنف الراهن. وفي اجتماع الهيئة الحكوميَّة الدولية المعنية بالتنمية (إيجاد)، المنعقد في أديس أبابا والذي قاطعه السودان، طالب رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، بحظر الطيران فوق الأجواء السودانيَّة، ومنع استخدام المدفعيات الثقيلة. هذه العقوبات كان من شأنها حرمان الجيش السوداني المحاصر من خاصية ضعيفة تميزه عن قوات التدخل السريع، ومن ثَم التسبب في انهيار الدولة على الفور وتعريض المدنيين القاطنين في العاصمة وباقي الدولة لنفس الإبادة الجماعيَّة التي تتعرض لها دارفور.

وفي ظل شبه غيابٍ لتدخل دوليٍّ مُجدٍ، فإنه لحسن الحظ ثمة جهود تبذل لمنح الدولة السودانية فرصة محاربة قوات الدعم السريع، حتى وإن كانت غير كافية.

وقد أظهر كل من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية والحكومة الأميركية اهتمامًا فيما يتعلق بالتحقيق في الأعمال الوحشيَّة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في دارفور والكشف عنها. وإن رفع الستار عن عنف الميليشيات، لن يساعد فقط الضحايا في الحصول على العدالة لأنفسهم والمدافعة عن حقوقهم، بل من شأنه أيضًا أن يؤدي الى إبطال شرعية هذه الميليشيات، ومن ثَم مساعدة الدولة السودانية في التصدي للصراع من أجل البقاء.

وفي هذه الأثناء، اجتمع قادة سبع دول مجاورة للسودان مؤخرًا في قمة عُقدت في مصر، وأعربوا عن التزامهم بالحفاظ على نزاهة دولة السودان وفاعلية مؤسساتها. وهذا يعني الالتزام بدعم الجيش الذي يمثل في ظل الظروف الراهنة العمود الفقري لديمومة السودان كدولة.

وعلى الرغم من أن هذه الجهود والمساعي مظهر إيجابي فإنها غير كافية بتاتًا. فإذا كان لدى المجتمع الدولي رغبة في تجنب مغبة انهيار كارثي في السودان، فيجب على القوى الدولية والإقليمية أن تتوقف عن هدر الوقت في إطلاق تصريحات نوايا حسنة وعبارات تشجيعية، وأن تتخذ خطوة مجدية لتحييد خطر قوات الدعم السريع.