يهدف الهجوم الإسرائيلي الأخير على مخيّم جنين للاجئين، إلى تحقيق عدد من الأهداف العسكرية والسياسية. وتسعى هذه الأهداف مجتمعةً إلى جعل الضفة الغربية ملاذًا آمنًا لاستيطانٍ إسرائيليٍ مُكثّف، بغية ضمّها بشكلٍ رسميّ في نهاية المطاف. ويُعَدّ هذا الهجوم الأكبر منذ الاجتياح الذي نفّذته إسرائيل العام 2002، والذي دمّر معظم المخيّم.

ومن المتوقّع، تمامًا كما حصل خلال العمليّات الإسرائيلية السابقة في الضفة الغربية وقطاع غزّة، أن تُلحق هذه العملية أضرارًا جسيمةً في البنية التحتية التنظيمية الفلسطينية، وأن تُلحق أيضًا، بالشعب الفلسطيني خسائر فادحة عن عمد. غير أنّ نجاح العمليّة على المستوى الاستراتيجي يبقى بعيد المنال، إذ لا يوجد سببٌ وجيهٌ يدعو إلى الاعتقاد بأنّ إسرائيل قد تنجح اليوم حيث فشلت، ليس في العام 2002 فحسب، بل خلال السنوات الماضية بشكلٍ متكرّر. وبالفعل، يبيّن الهجوم الإسرائيلي الحالي الذي شنّ ضدّ خصمٍ فلسطينيٍ أكثر جرأةً وتطورًا، طبيعة الإنجازات المؤقتة التي حقّقتها إسرائيل في السابق.

وفي الوقت نفسه، أدّى التفتّت والتفكّك إلى ضعف الحركة الوطنية الفلسطينية، ما حال دون استفادتها من الإخفاقات الإسرائيلية، وتحويلها إلى مكاسب تصبّ في مصلحة تقدّم الجانب الفلسطيني . على سبيل المثال، لا تزال "وحدة الساحات"، التي أُطلقت مرارًا، شعارًا حتى الآن أكثر منه اتفاقية دفاع مشتركة. وفي وقتٍ سابقٍ من هذا العام، لم يتحقّق هذا الشعار، حتى داخل قطاع غزة، عندما اغتالت إسرائيل عددًا من كبار كوادر الجهاد الإسلامي، وامتنعت حركة حماس عن أي تدخّلٍ مباشر. وبالتالي، تستمرّ إسرائيل في حملتها التي تهدف إلى تحويل الفلسطينيين من شعبٍ موحّدٍ إلى نوعٍ من الوجود الديموغرافي الذي يفتقر إلى أي قيمة سياسية.

قد يُعزى الاجتياح الإسرائيلي لجنين إلى التركيبة المتطرّفة للحكومة الإسرائيلية الحالية وأجندتها. غير أنّ الخطط التنفيذية ذات الصلة كانت قد صاغتها قبل عام حكومة سلفها بينيت لابيد، ما يدلّ على أن السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين تتّصف، بشكلٍ رئيسٍ، بالاستمرارية، تنفّذها المؤسسات، وليست قائمة على الأهواء الفردية.

كان المشهد المتغيّر للمقاومة الفلسطينية في شمال الضفة الغربية الدافع وراء تنفيذ هذه العملية، حيث برزت مجموعات جديدة لم تعد تخضع للفصائل أو المبادرات الفردية، مثل مجموعة عرين الأسود في نابلس، والتي جنّدت أفرادًا من مختلف الفئات، وهي غير مقيّدة بالحسابات السياسية للقادة الموجودين. بدأت هذه المجموعة هجمات منظّمة ومتصاعدة ضد جيش الاحتلال والمستوطنين الإسرائيليين. لم تحظَ أنشطتها بالحاضنة الشعبية فحسب، بل ألهمت أيضًا مجموعات مسلّحة محلية إضافية، مثل كتائب جنين. وقد طوّرت هذه المجموعات، بمرور الوقت، شبكة الاتصالات بين بعضها البعض ومع الجماعات شبه العسكرية التابعة للفصائل الموجودة.

عملت السلطة الفلسطينية بشكل مكثّف للقضاء على تلك المجموعات، متعاونةً عن قرب مع إسرائيل. لكن قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، التي أضعفتها إسرائيل بالكامل، والتي لم تنتشر أبدًا للدفاع عن الفلسطينيين من الغارات العسكرية الإسرائيلية الليلية ومن المذابح التي يرتكبها المستوطنون، كانت تفتقر إلى الشرعية والحاضنة الشعبية، وغالبًا إلى الحافز أيضًا لأداء هذه المهمة. وقد رفضت إسرائيل، بين العامين 2004 و2005، رفضًا قاطعًا التنسيق مع السلطة الفلسطينية لإعادة انتشارها في غزة، ما أدّى إلى اختزال سلطة هذه الأخيرة، إذ فقدت سلطتها السياسية، ما مهّد الطريق أمام حركة حماس للسيطرة على السلطة في وقتٍ لاحق. أما في الضفة الغربية، فقد أثّر عزم إسرائيل على تقليص وجود السلطة الفلسطينية لتُمسي مقاولًا فرعيًا للاحتلال، فضلًا عن عجز رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن تجاوز دوره بوصفه متعاونًا خاضعًا للعدوّ، بالطريقة نفسها في مصير أولئك الذين فضّلوا الدفاع المسلّح عن شعبهم.

وفي الوقت الذي كان فيه الناشطون الفلسطينيون يشنّون، بشكلٍ متزايدٍ، هجماتٍ جريئةٍ ردًا على التعدّيات الإسرائيلية المتكرّرة على أراضيهم وحياتهم، نفّذت إسرائيل، بشكلٍ متزايدٍ، سلسلة من عمليّات التوغّل العنيفة في المراكز السكانية الفلسطينية للقضاء عليها. ونادرًا ما كانت تأسر سجناء، بل كانت تقتل بشكل روتيني وعشوائي مدنيين عُزّل، بينما تلحق دمارًا واسع النطاق.

لقد دفعت عدّة عوامل إسرائيل إلى التخطيط لتنفيذ استعراضٍ شاملٍ للقوة في جنين. وقد لاقت جهودها المكثّفة في المدينة ومخيّمها نجاحًا أقلّ بكثيرٍ مما لاقته في نابلس، كما كشف أداء كتائب جنين وغيرها عن تطوّر متنامٍ. في الآونة الأخيرة، في حزيران/يونيو من هذا العام، استخدمت هذه المجموعات عبوات مطوّرة حديثًا، تمّ زرعها على جانب طريق مستهدفة وحدة إسرائيلية كانت قد اجتاحت مخيّم جنين للاجئين، وعطّلت سبع مركبات مدرّعة إسرائيلية، ما أدّى إلى إصابة سبعة جنود على الأقل. حوصرت الوحدة لساعات، ولم يكن إنقاذها ممكنًا إلا بعد أن شنّت مروحيّات أميركية من طراز أباتشي ضربات جوية على الضفة الغربية، وهي الأولى من نوعها خلال عقدين. وبعد عدّة أيام، قُتل أربعة إسرائيليين بالقرب من رام الله برصاص مسلّحيْن تابعيْن لحركة حماس ردًّا على مقتل سبعة فلسطينيين، وإصابة ما يقارب مئة شخص خلال الغارة على جنين.

يتمتّع مفهوم "الردع" في إسرائيل بمكانةٍ مقدّسةٍ. وشكّل تطبيقه العملي – أي السيطرة على العرب وإخضاعهم - هاجسًا منذ وصول المستوطنين الصهاينة الأوائل إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر. وشكّل التآكل الواضح والفوري لهذا المفهوم، تحدّيًا سياسيًا كبيرًا لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. إذ أنّ الفشل في ضمان أمن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي لن يؤدي إلى انقلاب السكان الإسرائيليين ضدّه -وهم اليوم غاضبين احتجاجًا على أجندته التشريعية التعسّفيّة- فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى انهيار ائتلافه الحاكم الذي يساعده في التهرّب من تُهم الفساد الموجّهة إليه.

يكتسب الحفاظ على الردع الأهمية نفسها بالنسبة إلى أعضاء حكومته الفاشيين، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي ايتمار بن غفير. فهم أنفسهم من المستوطنين المتشدّدين في الضفة الغربية، ويدعون باستمرار إلى إراقة المزيد من الدماء الفلسطينية، وهم يواجهون الآن صعوبة متزايدة في التنصّل من تحمّل مسؤولية "الوضع الأمني المتدهور" عند الفلسطينيين أو الإسرائيليين. ونظرًا لدورهم الكبير في الحكومة، بات تأثير غوغائيتهم محدودًا، ويشهد انحسارًا.

إنّ السياسة الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، هي عادة حصيلة إجماعٍ مؤسسيٍ وتخطيطٍ دقيق. لكن في هذه المناسبة، من الممكن أن تكون الاعتبارات الحزبية قد أدّت دورًا، وأنّ يكون نتنياهو قد رأى في جزءٍ من الهجوم الاسرائيلي على جنين، نوعًا من التهدئة  السياسية، التي من شأنها أن تريح الحلفاء المعترضين على استعداده الأخير تأجيل تطبيق قرارات حكومته التعسّفية.

مهما يكن الأمر، يشكّل الهجوم على جنين، في النهاية، جزءًا لا يتجزأ من أجندة سياسية واسعة، هدفها تحويل الضفة الغربية إلى منطقة آمنة لتسريع عمليّة الاستيطان الإسرائيلية، وإلى ضمّها بشكلٍ رسميّ. ويتطلّب ذلك من إسرائيل القضاء ليس على المقاومة الفلسطينية فحسب، بل على تطلّعاتها الوطنية أيضًا. وفي هذا السياق، قال نتنياهو في أواخر حزيران/يونيو الماضي خلال [جلسة مغلقة] للجنة الشؤون الخارجية والأمن [التابعة للكنيست]، "إنه يجب القضاء على تطلّعات الفلسطينيين لإقامة دولة [مستقلّة]". وقد عبّر بن غفير عن ذلك على النحو التالي: "نحن بحاجة إلى تعزيز الاستيطان في أرض إسرائيل و…. شنّ عملية عسكرية (تشمل) هدم المباني وتصفية مخرّبين، ليس واحدًا أو اثنين، بل عشرات ومئات، وآلاف إذا لزم الأمر." فوفق المصطلحات الإسرائيلية، ولا سيما في الأوساط المماثلة لأوساط بن غفير، يختصر "الفلسطيني" مصطلح "إرهابي"، أكان رجلًا، أو امرأة، أو طفلًا، أو مدنيًا، أو مقاتلًا.

اتبّع الغزو الأخير لجنين نمطًا متوقّعًا: دمار هائل ومتعمّد وإطلاق نار عشوائي واستخدام مدنييّن غير مقاتلين دروعًا بشرية وعرقلة متعمّدة للرعاية الطبّية للجرحى، فضلًا عن قصف مكثّف لمستشفى بالغاز المسيّل للدموع وتهجير قسري لما لا يقلّ عن 3,000 شخص. وشارك في عمليّة الغزو هذه ما يقارب 1,000 جنديّ من النخبة مدعومين بنحو 150 دبابة وعربة مصفحة وسلاح جويّ.

ويبقى معرفة ما إذا كان المقصود من تنفيذ الغزو هو أن يكون ضربة مطرقة تتبعها سلسلة من الغارات الصغيرة، أو مرحلة أولى من هجومٍ أوسعٍ يمتدّ إلى مناطق أخرى في الضفة الغربية، وربما قطاع غزة. في كلتا الحالتين، ستعلن إسرائيل النصر وتدّعي أنها نفّذت العملية تمامًا كما خطّطت لها من دون أي عائق.

ما يمكن التأكيد عليه أيضًا هو أنه يوجد، مجدّدًا، تناقض شديد بين المجتمع الدولي والغرب. فالأخير تقوده الولايات المتحدة، التي سارعت بدورها إلى الإعلان أنّ غزو إسرائيل لمخيم للاجئين هو دفاعٌ مشروعٌ عن النفس، داعمةً إيّاه بالكامل. بالإضافة إلى ذلك، وصمت أولئك الذين يدافعون عن مخيّمهم بوصفهم "إرهابيّين"  إذ ردّوا بإطلاق النار على جنود مسلّحين بالزيّ العسكري. في لندن، أصدرت الحكومة والمعارضة ردًّا موحّدًا على جرائم إسرائيل الأخيرة، من خلال تمرير مشروع قانون يمنع السلطات المحليّة مقاطعة إسرائيل أو مستوطناتها غير القانونية. أما في بروكسل، فيُفترض أن يناقش الاتحاد الأوروبي اللمسات الأخيرة لبيانٍ يعرب عن القلق الشديد، قبل التكليف بإجراء تحقيق آخر في الأدلّة التي قدّمها الفلسطينيون!

إنّ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لا يقلّ جبنًا هنا. إذ صرّح مرّةً أخرى، معتمدًا أسلوب موظفٍ ثانويٍ في وزارة الخارجية، بسلسلة من العبارات المبتذلة لتجنّب إدانة إسرائيل على أفعالٍ يندّد بها على الفور في حال ارتُكبت في مكانٍ آخر. وتجدر الإشارة إلى أن غوتيريش شغل في السابق خلال فترتين متتاليتين منصب مفوّض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، ولا يزال يشير إلى هذا العقد من حياته المهنية إلى حدّ الملل. ومع ذلك، عندما طُلبَ منه التعليق على القصف الجويّ لمخيّمٍ للاجئين مكتظّ بالسكان، وما لحقه من تهجيرٍ قسريٍ لآلاف من سكانه، لم يرَ على ما يبدو ما يستحق الاستنكار.


نشر المقال الأصلي باللغة الإنجليزية على موقع جدلية.