تم نشر المقال في الأصل باللغة الانجليزية على موقع Security in Context
نشهد اليوم تطورات مهمة فيما يتعلق بالنزعة الجيوسياسيَّة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وإن كان غالبًا ما تتم المبالغة بشأن حجم التغييرات المعنية. ضمن تلك التطورات، ثمة عدد من الديناميات البارزة والمترابطة في الوقت ذاته، من ضمنها تنويع العلاقات الاستراتيجيَّة، وتقليل الاستقطاب الإقليمي والجهود الرامية لاسترداد الأمن الإقليمي العربي بعد ما يزيد عن عقدٍ من الاضطراب.
لقد ظهر دور المملكة العربيَّة السعودية كمحفز رئيسي لهذه التطورات والديناميات. وفي حين أن هذا الظهور قد ينظر له على أنه مفاجئ وغير بديهي، فإن هذه التغيرات لم تتحقق بين ليلةٍ وضحاها، إذ تعكس سلسلة من التحولات المحلية والإقليمية والعالمية الأوسع نطاقا..
ولقد شهدت العقود الأخيرة تغييرات كبيرة في علاقة الإقليم بالقوى العالميَّة، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة، الاتحاد الروسي، وجمهوريّة الصين الشعبيَّة. فاليوم تشكل جمهورية الصين الشعبيَّة شريكاً تجارياًّ رئيسياً، بالإضافة إلى كونها السوق الرئيسية لتصدير معظم منتجات الطاقة كذلك. وفي الوقت الحاضر، تلعب موسكو دور الشريك الرئيسي للرياض في رسم سياسة النفط من خلال إطار أوبك بلس. وبعكس واشنطن، فإن الصين وروسيا تحافظان على علاقات ثنائيَّة الجانب مع جميع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. روسيا، على وجه الخصوص، أقامت علاقات مع العديد من الدول الأخرى التي تلعب دوراً إقليمياًّ هاما.
وبالرَّغم من ذلك، فإن التغيرات الأكثر إثارة للاهتمام كانت بين حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والولايات المتحدة. قد تتجه واشنطن نحو آسيا، ولكن يبقى حضورها بارزاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث لا تملك الدول التابعة لها النيَّة أو حتى الإمكانيَّة لقطع العلاقات الاستراتيجيَّة معها.
وقد بدأت الشكوك حول قوة الولايات المتحدة في الظهور عقب غزو العراق عام 2003، إذ أثبت الجيش الأكثر قوة في تاريخ البشريَّة عجزه عن خلق حالة من الاستقرار في بلدٍ أرهق كلياًّ نتيجة لعقد من العقوبات الشاملة، فضلًا عن فشله في الحيلولة دون تحول الدولة إلى منطقة نفوذ إيرانيَّة. مؤخرًا، زاد الانسحاب الفوضوي جدا للجيش الأمريكي من أفغانستان، في مشاهد تستحضر إلى الذاكرة المراحل المؤلمة الأخيرة لهزيمة الولايات المتحدة في فيتنام، المخاوف بشأن التزام الولايات المتحدة بالإبقاء على حلفاء إقليميين وعملاء.
وما شكل مصدر قلقٍ أكبر بالنسبة لحلفاء واشنطن في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كان الاتفاق النووي الذي أبرمته إيران عام 2005. فمن وجهة نظر حلفاء واشنطن في المنطقة، تم إبرام الاتفاق دون مراعاة مصالحهم، وبالتالي شعروا بالخيانة نتيجةً لما اعتبروه تجاهلاً من قبل الولايات المتحدة لمخاوفهم الأمنية بغرض تأمين نفسها.
في ظل هذا، وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وتم الاحتفاء بحل ترامب بشكل أحادي الجانب للاتفاق مع إيران كلحظة خلاص. ولكن عندما لم تسر الأمور كما هو مخطط، حيث صُعّدت هجمات القذائف اليمنية الحوثيَّة على الأراضي السعودية (والإماراتية لاحقاً)،"فشل الفارس في امتطاء جواده". كما يبدو بأنَّ مبدأ كارتر ألقي إلى مزبلة التاريخ، وأدرك الحكام الإقليميون الواقع الأليم بأنَّ دولهم تؤدي خدمة وقود الحرب في أي مواجهة بين الولايات المتحدة وإيران.
ولم يساعد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض على تحسين الوضع القائم إلا بالكاد. فما كان ينظر إليه سابقاً في العواصم الإقليميَّة المعنية بأنه نتاج لسياسات اتبعها الرئيس جورج بوش أو باراك أوباما، تبيّن أنه مشكلة أكثر جوهرية: إمكانيَّة الثقة بـ والاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكيَّة في القرن الواحد والعشرين، والحكمة من الاعتماد بشكل حصري على واشنطن فيما يخص الأمن والاستقرار.
ويأتي التنويع كرد فعل في مواجهة التطورات السابقة وما نتج عنها من معضلة. مازال ينظر لواشنطن على أنها الضامنة المطلقة لاستمرار النظام وقت الأزمات التي تهدد وجود الدولة. لكنَّ ذلك لم يعق تقوية العلاقات، المبنية على مصالح مشتركة، مع روسيا والصين. لهذا قامت الرياض بإعداد سياسة للنفط بالتنسيق المتقارب مع روسيا في تجاهل متعمد للمخاوف الأمريكية والأوروبية فيما يخص موارد الطاقة الناشئة عن الحرب في أوكرانيا. وعلى غرار ذلك، فقد صنعت دبي لنفسها مكاناً كقاعدة تجارية للنفط الروسي عقب وقوع جنيف ضحيَّة لتبني الاتحاد الأوروبي للعقوبات. في الواقع، فإن ردود منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على الحرب في أوكرانيا، والتي رفضت الانضمام إلى مقاطعة الدول الغربيَّة وإدانتها لروسيا، تقدم مثالًا ممتازًا للتنويع الاستراتيجي.
في شهر مارس عام 2023 تم توقيع اتفاق تطبيع بين المملكة العربية السعودية وإيران بوساطة جمهورية الصين الشعبية، كان ذلك خير بيان للمحاولات الإقليميَّة الرامية للتخفيف من الاستقطاب. ويمكن إطلاق نفس القول على تطبيع العلاقات مع دمشق من جانب معظم الحكومات العربيَّة وجامعة الدول العربيَّة، وخفض التصعيد على مستوى إقليمي في اليمن، وقرار مجلس التعاون لدول الخليج العربيَّة حيال الأزمة، والصلح السعودي الإماراتي مع تركيا، وكذلك المبادرات الجاري العمل بها لتطبيع العلاقات مع مصر، وإيران، وتركيا. وعلى الرغم من استمرار المنافسات والتوترات الإقليميَّة إلا أنها انخفضت بشكل كبير.
التصرف باستقلاليَّة أكبر أصبح ممكناً بفضل سياسة التنويع، ومن خلاله وضعت الحكومات الإقليميَّة مصالحها في المقدمة، مانحةً إياها الأولويَّة فوق مصالح رعاتها الاستراتيجيين. بخلاف ما كان الحال عليه خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، فإنَّ حكام منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم غير مهتمين كثيراً بالمنافسة بين أثرياء الولايات المتحدة من الساسة (البلوتواقراط)، وبين كل من النخبة الروسية (الأوليغارشيَّة)، والرأسمالية الصينية، وباتوا يرحبون بالتعاون مع كل تلك الأطراف في المسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية.
في الواقع، فإنَّ إماطة اللثام عن هذه المبادرات العديدة، جعل الإعلام الغربي ورهاناته تتجه للتركيز نحو فرص تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربيَّة السعوديّة بوساطة الولايات المتحدة. من جهة، وكما هو مبين من الجانب الإماراتي، فإنَّ العلاقات مع إيران وإسرائيل ليست متنافية. وفي الوقت ذاته، ليس لدى الرياض مصلحة حالياًّ بإبرام اتفاق شبيه بالذي عقد في أبو ظبي. إنَّ المملكة العربيَّة السعوديَّة تتمتع بالفعل بعلاقات واسعة مع إسرائيل، وليس ذلك مفيداً لها عدا عن أنه يمنحها رضا الولايات المتحدة عنها، وبالتالي لن تكون ثمة أي فائدة مضافة لإضفائها طابعًا رسميًا على تلك العلاقات. ومن المستبعد ألا تكون الرياض قد لاحظت بأنَّ الإمارات لم تستلم أبداً الطائرة العسكريَّة من طراز أف 32 أو نظم تسليح أخرى كان ترامب وجيراد كوشنر قد عرضوها أمام أبو ظبي بغية إتمام إبرام- ما تم إعطاؤه التسمية الجليلة – "العهود الأبراهيميَّة".
عوضًا عن ذلك، فإنَّ المملكة العربيَّة السعوديَّة وشركائها قدر كرسوا جهودهم على ما يبدو لإعادة بناء ما يعرف بالنظام الرسمي العربي أو نظام الدول العربية، حيث ينظرون إلىإحياء هذا النظام، على ما يحمله من عيوب وعراقيل، كسياسة ضمان أفضل ضدَّ الاضطرابات الذي شهدها العقد المنصرم، ولمواجهة ما قد ينشأ من تهديدات داخليَّة وخارجيَّة جديدة.