عراقي يسير في طريق مسدود بسبب حرق الإطارات في البصرة ، آب 2022 (HUSSEIN FALEH / AFP / GETTY IMAGES)

بمناسبة الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق، عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالشراكة مع مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني، يومي 14 و15 أيار/ مايو 2023 في مقر المركز العربي بالدوحة، ورشة أكاديمية بعنوان "العراق: عشرون عامًا بعد الغزو، تقييم الآثار الناجمة والآفاق المستقبلية"، ناقشت تجربة الحكم في العراق خلال العقدين الماضيين، مع التركيز على مسار النزاع في العراق وتقييم تجربة إعادة الإعمار.

انتظمت الورشة، التي شارك فيها أكاديميون وصنّاع قرار، في ست جلسات، تناولت الجوانب المختلفة للموضوع، متطرقةً إلى تصورات النزاع في العراق، والوضع الراهن، وقضايا إعادة الإعمار، ودور القوى الإقليمية والدولية، واستشراف مستقبل العراق.

الغزو الأميركي للعراق: الأسباب والتداعيات الراهنة

استُهلت الندوة بكلمتين ترحيبيتين، قدّمهما كل من غسان الكحلوت، مدير مركز دراسات النزاع، وحيدر سعيد، عن المركز العربي، اللذين ذكرا أهمية توظيف الذكرى العشرين للغزو الأميركي في تقييم التجربة العراقية.

باشرت الندوة أعمالها بالجلسة الأولى، التي تناولت موضوع "تصور النزاع في العراق"، وبسطت النقاش في الأسباب التي مهّدت للاحتلال الأميركي للعراق، والآثار المباشرة وغير المباشرة الناتجة عنه، والأزمات الاجتماعية والسياسية التي اندلعت عقب الاحتلال. وتناولت الجلسة انتقال السياسة الأميركية في العراق من "معالجة آثار الاستبداد" إلى "حل النزاع"، وهو ما يكشف أن التصور الأميركي عن العراق لم يقف عند حدود إسقاط الاستبداد، بل تعداه إلى تصور أن المجتمع العراقي مجتمع نزاعي، وأن النظام السياسي الأمثل له هو النظام الجماعوي، الذي يُعرف بـ"الديمقراطية التوافقية"، والذي عمل على تعزيز الانتماء للهويات دون الوطنية. كما ناقشت الجلسة خطط معالجة النزاع في العراق، ونتائجها، وما إذا كان العراق لا يزال بلدَ نزاع أم لا.

أما الجلسة الثانية، التي كانت بعنوان "الوضع الراهن في العراق: 20 سنة بعد الغزو"، فبحثت في الأوضاع السياسية القائمة في العراق، وطغيان ظاهرة الفساد، المرتبطة بالمجتمع السياسي، والتعدي على الحقوق السياسية والحريات المدنية. وخلصت الجلسة إلى أنه على الرغم مما يمكن أن يعده البعض "ديمقراطية قيد التشكّل" تحتاج مؤسساتها إلى مزيدٍ من الوقت للرسوخ، لا يزال المشروع الديمقراطي في العراق من دون نخبة ديمقراطية ملتزمة به، وأنه من غير الممكن تطوّر الديمقراطية داخل دولة ضعيفة غير قادرة على احتكار العنف القانوني، وتغيبُ فيها قيمة المواطنة.

إعادة الإعمار: الإنجاز والتحديات والآفاق

ركّزت الجلستان الثالثة والرابعة من أعمال الورشة على موضوع إعادة الإعمار في العراق، في محاولة للوقوف على ما تحقق في هذا المجال وأبرز التحديات والآفاق الممكنة. وأوضح المشاركون، في البداية، أن ثمة كمًّا هائلًا من الأدبيات والدراسات الأجنبية التي ناقشت موضوع إعادة الإعمار في العراق، في ظل غياب عراقي شبه كامل. كما أشاروا إلى ضرورة توسيع مفهوم "إعادة الإعمار"، الذي لم يعد يقتصر – في الأدبيات العالمية المختصة – على إعادة البناء ما بعد النزاع، بل يشمل الجوانب السياسية والمجتمعية، ومن ثم ينبغي أن تلتزم عملية إعادة الإعمار في العراق بتعريف البنك الدولي لعملية إعادة الإعمار بعد النزاع، الذي يربطها - معياريًّا - بتسهيل الانتقال إلى السلام التام، وتوقّف الأعمال القتالية، ودعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فضلًا عن المسائل السياقية المرتبطة بظروف البلد، كمسببات النزاع، والسياق الاجتماعي والاقتصادي السابق على النزاع، والرؤى المستقبلية، وما إذا كان ثمّة دور للعامل الخارجي في إعادة الإعمار، وتأثير الأوضاع السياسية الداخلية الأميركية في مسألة إصلاح العراق، ودور مؤسسات المجتمع المدني العراقية في عملية إعادة الإعمار، ومدى تحقق الأركان الأساسية في عملية إعادة الإعمار (الأمن، والرفاهية الاجتماعية والاقتصادية، والعدالة والمصالحة، والحوكمة والمشاركة).

وأوضح المشاركون أنه يمكن تقسيم جهود إعادة الإعمار في العراق على مرحلتين، تمتد الأولى من 2003 - 2017، في حين تبدأ المرحلة الثانية من 2017- أي منذ تحرير الأراضي التي سيطر عليها تنظيم داعش- حتى الوقت الراهن. وهذا يعني أن هناك مشروعًا جديدًا لإعادة الإعمار ما بعد داعش مختلفًا بالكامل عما طرح غداة الغزو. وفي المرحلتين- وفق ما أشار المشاركون - لم تتحقق نتائج ملموسة على أرض الواقع، رغم المبالغ الكبيرة التي رُصدت. وتتمثل أسباب ذلك بالفساد، وسوء الإدارة، وهدر المال العام، وغياب التخطيط الاستراتيجي، واختلاف رؤى إعادة الإعمار لدى الأطراف الدولية الفاعلة، كما هي الحال بالنسبة للمبعوثين الأميركيين، وذلك ما حال دون موضعة الإعمار وفق منظومة عمل متكاملة تراكمية وأدوار الجهات الفاعلة الدولية والجهات المحلية المنفذة، والمستثمرين، ومؤسسات المجتمع المدني.

وتناول المشاركون حجم التخصيصات المالية لإعادة الإعمار، وآلية توزيعها، متفقين على أن القطاع الأمني ظلّ يحظى بنصيب الأسد من تلك التخصيصات، مقابل تخصيص مبالغ محدودة لقطاعات التعليم والصحة وتطوير البنية التحتية.

كما أشار المشاركون إلى غياب آليات الرقابة على عملية إعادة الإعمار، والذي يُمكن تفسيره جزئيًّا بصعوبة تتبع مسارات صرف الأموال في ظل إدراجها تحت عناوين فضفاضة على شاكلة "البناء الديمقراطي"، والمحافظة على السلم الأهلي، إلى جانب أسباب متعلقة بعدم وجود قاعدة بيانات تتيح القدرة على تحديد الاحتياجات لدى صانع القرار الرسمي وفق منظور سياساتي تنموي شامل.

واتفق المشاركون في ختام الجلسة على أن مناقشة جهود إعادة الإعمار لا يمكن عزلها عن مناقشة الوضع السياسي، وأن نجاح الإعمار يرتبط بالإصلاح السياسي القادر على تفكيك حالة التخادم التي نُسجت بين الجهات الفاعلة، والتي أدت في المحصلة إلى مزيدٍ من الفساد وهدر المال العام، وتحوّل الإعمار إلى حالة إدارة الأزمة، بدلًا من التجاوب مع الاحتياجات الحقيقية للعراق والعراقيين.

دور القوى الإقليمية والدولية في نجاح أو إفشال تعافي العراق

تناولت الجلسة الخامسة أدوار القوى الإقليمية والدولية في العراق عقب الغزو، مقيّمةً الأثر الذي تركته على العراق إيجابًا أو سلبًا، وذلك في أربعة محاور. تناول المحور الأول دور الولايات المتحدة في العراق بوصفها قوة احتلال منذ عام 2003، والتي ما تزال تمارس دورها فاعلًا مباشرًا في المشهد العراقي الأمني والسياسي، وحتى الدستوري. أمّا المحور الثاني فتناول بالتحليل الدور الإيراني، من ناحية أسباب التدخل ودوافعه وأشكاله، وأثره في المشهد السياسي. وانتقل المحور الثالث إلى الدور التركي، موضحًا أشكال المصلحة التركية في العراق المتعلقة بالطاقة، والتبادل التجاري، والأمن. وأخيرًا، ناقش المشاركون أدوار ومواقف الدول العربية تجاه العراق، والتي ظلّت محكومةً بالريبة، وهو ما أدى إلى تعقد الأوضاع السياسية، وترك العراق دون حليف في المنطقة، مقابل مهارة إيرانية في توظيف البعد الأيديولوجي في السياسة الخارجية.

وقدّم المشاركون تصوّرات مختلفة عن دوافع ومصالح الدول الخاصة والمركبة في التعامل مع العراق، إلّا أنهم اتفقوا على أن الجانب العراقي بقي عاجزًا عن فهم استراتيجيات أهم الفاعلين، ولا سيّما الفاعل الأميركي والإيراني، فضلًا عن عدم وجود استراتيجية صلبة في التعامل مع دول الإقليم، بسبب غياب منطق الدولة في التعامل السياسي، وبناء العلاقات مع الدول وفق منطق يتشابك فيه العامل الداخلي مع الخارجي.

استشراف مستقبل العراق

في الجلسة السادسة والأخيرة حاول المشاركون تقديم رؤاهم وتصوراتهم عن المستقبل السياسي للعراق، وذلك من خلال مناقشة ثلاثة افتراضات أطّرت النقاش. حاجّ الافتراض الأول بأنّ مستقبل العراق يحدده الفاعلون السياسيون العراقيون، على خلاف ما شهدته الفترة 2003-2005 من سيطرة أميركية كاملة على المشهد السياسي، وأنّ إيران لا تملكُ سيطرةً على المشهد السياسي العراقي، إذ رفض الفاعلون السياسيون العراقيون الإرادة الإيرانية عدة مرات.

أمّا الافتراض الثاني فرأى أنّ مستقبل العراق يتحدد وفق مصير الصراع الشيعي-الشيعي على معنى الدولة وشكلها ومستقبلها، بمعزلٍ عن المكونات السنية أو الكردية. ونتجَ هذا الصراع عن تفكك التضامن ما بين المجتمع الشيعي من أفراد عاديين مع الطبقة السياسية الشيعية، وقد تمظهر هذا التفكك سياسيًّا مع احتجاجات البصرة (2018)، التي شهدت لأول مرة تعاطفًا ودعمًا عراقيًّا عامًّا، فضلًا عن تأييد المرجعية الشيعية - لأول مرة - لحق الناس في الاحتجاج، بخلاف الاحتجاجات السابقة التي شُيطنت شيعيًّا في إطار الصراع السني-الشيعي.

وافترض السيناريو الثالث أنّه من الممكن تحقق الإصلاح السياسي في حال قيام معارضة نظامية داخل مجلس النواب، وذلك من خلال نجاح عددٍ من النواب المرتبطين بحركة الاحتجاجات في خريف 2019، التي عُرفت بـ "انتفاضة تشرين"، في الحصول على مقاعد في مجلس النواب، بالتزامن مع ضعف الموارد المالية، وهو ما يجبر الطبقة السياسية على القيام ببعض الإصلاحات الضرورية، إذ لم تُقدم السلطة تنازلات طوعية ودائمة إلا عند حدوث هزيمة لأحد الأطراف. وفي السياق ذاته، جادل بعض المشاركين بأن استشراف مستقبل العراق لا يرتبط بزوال الطبقة السياسية فقط، وأنه من غير الممكن الرهان على شباب الحركة الاحتجاجية في إحداث تغيير، في ظل عدم تمكنهم من إفراز تنظيمات سياسية، ووجود خلافات سياسية بينهم، واستقطاب عدد منهم من قبل القوى السياسية.

أخيرًا، تطرّق المشاركون إلى مستقبل الدولة العراقية، مناقشين أنه لا يمكن أن يُكتب للنظام الفيدرالي النجاح في العراق في ظل دولة ريعية، لما تعنيه الفيدرالية من تقوية الأطراف على حساب المركز، على عكس الدولة الريعية. وكذلك الأمر بالنسبة للنظام الكونفدرالي، الذي سيؤدي في حال قيامه إلى صراع على الموارد بين الأقاليم، وهو ما سيقود إلى التقسيم الفعلي للدولة. في حين رأى البعض الآخر أن الخوف من انقسام الدولة العراقية تلاشى مقارنةً بالسنوات الأولى لما بعد الغزو.

لمزيد من المعلومات يرجى التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني: chs@chs-doha.org