يدل الدعم الأميركي المطلق للحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة على تأييدها للجرائم الإسرائيلية في القتل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين، وعلى موافقتها لإسرائيل في ممارسة أساليب العصور الوسطى المتمثلة في الحصار الذي وصل إلى مستوى العقاب الجماعي، ذلك يعني أن أميركا تمد إسرائيل بالسلاح دونما شرط، رغم علمها بأنها تستخدم لارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وأن واشنطن توظف نفوذها السياسي والدبلوماسي، في الأمم المتحدة وأماكن أخرى، لضمان قدرة إسرائيل على الاستمرار في هذا الطريق مع الإفلات من العقاب.
إذًا يمكن القول بوضوح إن الولايات المتحدة شريك فعليّ ومتواطئ في ميادين القتل في غزة. واستنادًا إلى التصريحات الرسمية الصادرة عن واشنطن فإن إدارة بايدن فخورة بدورها هذا، بل وتتباهى به. إذ إن المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، قال للصحفيين، يوم الثلاثاء: "إن وقف إطلاق النار الآن لا يخدم إلا حماس".
إلا أن هذا الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل يستبطن تطورًا لافتًا لم يلقَ اهتمامًا كافيًا؛ وهو انهيار ثقة الولايات المتحدة الأميركية بالقيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل، وكذلك انهيار الثقة بالقدرات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية، وهذا أمرٌ أخطر بكثير مما كان عليه الحال خلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر قبل 50 عامًا. ففي عام 1973، واجه الجيش الإسرائيلي أزمة موارد أمكن تعويضها من خلال جسر جوي أميركي ضخم لتوريد الأسلحة، أما الآن في عام 2023، فإن إسرائيل تعاني من أزمة في القيادة والقدرات، وهذه الأزمة لا يمكن لأي قدر من الأسلحة الأميركية المتقدمة تعويضها.
وسيؤدي هذا الانهيار في الثقة إلى عواقب كبيرة على المدى الطويل في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل؛ فإسرائيل ستفقد مكانتها بوصفها "أكبر حاملة طائرات أميركية لا يمكن إغراقها في العالم"، كما وصفها ذات مرة وزير خارجية رونالد ريغان، ألكسندر هيج. من الآن فصاعدًا، لن يستمع صناع القرار في الولايات المتحدة، خصوصًا في المجالين العسكري والاستخباراتي، إلى آراء نظرائهم الإسرائيليين، وسوف تكون كل ادعاءاتهم بالمعرفة والقدرة المطلقة محل شك. يبدو أن حاملة الطائرات (يو إس إس إسرائيل) اليوم أشبه بمركب معطوب بحاجة ماسة إلى الترميم كي يبقى صالحًا للإبحار، وما يؤكد ذلك هو أن الولايات المتحدة لم ترسل مجموعة واحدة من حاملات الطائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط فقط، بل اثنتين.
وعلى خلفية ذلك، ثمة إشارات إلى أن الولايات المتحدة تؤدي دورًا مباشرًا في عملية صنع القرار الإسرائيلي؛ إذ إن الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن خلال زيارتهما إلى إسرائيل اجتمعا مع حكومة الطوارئ الحربية الإسرائيلية وترأسا المناقشات معها، "وهذا يكاد يكون سابقة في تاريخ إسرائيل"، حسب ما قالته صحيفة نيويورك تايمز. كما أن واشنطن أرسلت ضباطًا عسكريين كبارًا إلى إسرائيل، رسميًّا، "لتقديم المشورة" في التخطيط للعمليات العسكرية في غزة، وإن كانت التوقعات تقول إن مهمتهم الحقيقية تتعدى ذلك، وفق تقارير تفيد بأن إدارة بايدن "تعتقد أن إسرائيل ليس لديها أهداف عسكرية قابلة للتحقيق في غزة"، وأن الجيش الإسرائيلي غير مستعد للهجوم البري. وتعكس حاملات الطائرات الموجودة في المنطقة تقييمًا أميركيًّا مفاده أن إسرائيل لا تمتلك الوسائل العسكرية اللازمة لمواجهة حماس وحزب الله على الحدود الجنوبية والشمالية في نفس الوقت.
لن تقاتل القوات الأميركية، المنتشرة في أنحاء إسرائيل، الآن حماس نيابة عن إسرائيل، ولن تتولى العمل على تحرير الرهائن المدنيين في غزة، أو تراقب المساعدات الإنسانية الداخلة إلى القطاع المنكوب، بل إن مهمتها الرئيسة تتمثل في ضمان منع الجيش الإسرائيلي من شن هجوم بري على غزة ما لم يكن لديه استراتيجية وأهداف ترى واشنطن أنها قابلة للتحقق، خصوصًا في ظل ما تعانيه قيادة الجيش الإسرائيلي من فوضى وتشتت، وفشل القوات الإسرائيلية في إثبات كفاءتها. إذ من غير المقبول لدى واشنطن أن تفشل إسرائيل مجددًا؛ وذلك لأسباب عدة على المستويات المحلية والإقليمية والجيوسياسية. ورغم الدعم المطلق الذي منحته إدارة بايدن لقادة إسرائيل فإنها لن تمنحها حرية العمل التي قد تتسبب بفشل إضافي. ويبدو أن التدمير المنهجي لقطاع غزة بالقصف الجوي على مدى الأسبوعين الماضيين قد يكون بديلًا للهجوم البري وليس مقدمة له.
هذه الأزمة حطمت بسرعة أوهام إدارة بايدن التي قدمها مستشارو البيت الأبيض، مثل جيك سوليفان وبريت ماكغورك، بأن شرق أوسط "جديدًا" شيّده نتنياهو لهم. كما أن سجلهم في غزة لم يعرِّ جوهر "النظام الدولي القائم على القوانين" الذي يخدم المصالح الغربية، والذي يزعمون أنه مهدد في أوكرانيا، بل وخلق حالة رفض له لدى دول الجنوب التي أعياها النفاق.
نهج واشنطن في غزة ليس عسكريًّا فحسب بل هو أيضًا سياسي؛ إذ إن النخب السياسية الأميركية، وعلى عكس شركائهم الإسرائيليين، تناقش لمرحلة ما بعد هذا الهجوم الإسرائيلي وتخطط له. إن المقترحات المقدمة "لما بعد هذه المرحلة" حتى الآن جاءت على لسان كل من ستيف سايمون وروبرت ساتلوف وودينيس روس وديفيد ماكوفسكي، وبالطبع توماس فريدمان، من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وهو ما يعكس عقلية حكومة الولايات المتحدة الأميركية إلى حد بعيد.
وكما هو الحال مع أغلب ما تنتجه غرف الصدى في واشنطن فيما يتعلق بإسرائيل وفلسطين، فإن هذه المقترحات مبنية على آمال مفرطة في المثالية؛ إذ تبدأ هذه المخططات بالقضاء على حماس وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلحة في غزة على يد الجيش الإسرائيلي، الذي انهار في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مثل بيت من ورق، ثم يقترحون الإبقاء على فصل قطاع غزة سياسيًّا وإداريًّا عن الضفة الغربية من خلال وصاية الأمم المتحدة على الأراضي، رغم توقع أن ذلك لن يلقى قبول روسيا أو الصين أو الدول العربية في مجلس الأمن. من المتوقع أيضًا أن يشمل ذلك نشر قوات عسكرية عربية في غزة كي تضمن- على ما يبدو- عدم مواجهة إسرائيل لمزيد من العداء الفلسطيني، ويتوقعون أن يكون استقبالهم بالورد.
ومن الأمور اللافتة في بعض هذه المقترحات استعداد القيادة السعودية لتحمل تكلفة إعادة الإعمار الباهظة بعد التدمير الإسرائيلي الممنهج لغزة، وهو ما يعيد إحياء الهدف الأميركي الرئيس المتمثل في التطبيع الدبلوماسي السعودي الإسرائيلي. وتدعو هذه الخطط أيضًا إلى إجراء انتخابات فلسطينية جديدة، مع التأكيد على أن السلطة الفلسطينية، الفاقدة لمصداقيتها، ستفوز بها. كل تلك الخطط المفترضة يمكن تلخيصها في أنها محاولة فاشلة لاجترار عملية أوسلو.