فلسطينيون يتم إخراجهم من مشرحة مستشفى الأقصى لدفنهم بعد قتلهم في الغارات الجوية الإسرائيلية، غزة في 15 أكتوبر 2023 (رويترز)

تم نشر المقال في الأصل باللغة الإنجليزية على موقع ميدل إيست آي

لم يكن اندلاع الحرب في غزة مفاجئًا لأحد، بل إن هذا الانفجار، الذي مر سنوات عليه وحظي بتغطية إعلامية كبيرة، ما هو إلا دلالة على اليأس الذي وصل إليه ساكني قطاع غزة من كسر الحصار الإسرائيلي الذي دام 16 عامًا.

ولم يأتِ الرد الإسرائيلي أقل وحشيةً مما عُرِف عنه، ومن الواضح أن الفلسطينيين في غزة على دراية تامة بنوايا الإبادة الجماعية التي تكنّها إسرائيل، وبجرائم الحرب التي تستمر في ارتكابها على الملأ. في هذه الورقة يقدم خمسة أكاديميين وباحثين فلسطينيين وجهة نظرهم حول الصراع الدائر.

تطبيع بن غفير وسموتريتش | معين رباني

"الولايات المتحدة وأوروبا تطلقان العنان لإسرائيل في غزة"، كان هذا العنوان الرئيسي لصحيفة "غلوبس" اليومية المالية الإسرائيلية، التي نُشرت قبل يوم من إلقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن تصريحات في البيت الأبيض، أشار فيها إلى أن أمريكا لا تطلق العنان لإسرائيل وحسب، بل إنه يعدُّ الولايات المتحدة شريكًا حقيقيًّا وفاعلًا في عملية التدمير الممنهج للقطاع المحاصر.

كان هذا الخطاب استثنائيًا حتى في معايير الولايات المتحدة. ويرى بايدن أن غاية حماس الوحيدة هي قتل اليهود، بل إنه ساوى بين عملية طوفان الأقصى، وهو الاسم الذي أطلقته حماس على الهجوم الذي شنّته في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وحادثة المحرقة وما فعله تنظيم الدولة الإسلامية، وهو ينفي بذلك أي علاقة بين هجوم المقاتلين الفلسطينيين ضد إسرائيل والسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، التي يعرفها جيدًا.

وخصص بايدن جزءًا كبيرًا من تصريحاته لإدانة الهجمات على المدنيين غير المقاتلين، أو بالأحرى على المدنيين الإسرائيليين فقط، غاضًّا طرفه عن عمليات القتل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين، وتدمير أحياء بأكملها بالقنابل شديدة القوة، وذلك بدعوى أن إسرائيل- على النقيض من حماس- "تلتزم بقوانين الحرب".

واختتم حديثه بحكاية عن غولدا مائير، التي بدا أنها تشير إلى أنهما كانا على علم تام ببدء مصر وسوريا الوشيك لحرب تشرين الأول/ أكتوبر في 1973. أدلى بايدن بعدّة تصريحات أكّد فيها أن البيت الأبيض ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يسيران على نهجٍ واحد خلال الأزمة الحالية.

وكما كان متوقعًا، فقد تم تطبيع [وزراء الحكومة اليمينية] إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.

وشدد بايدن على أنه سيتم إمداد إسرائيل بكل الذخائر من المتفجرات شديدة القوة، وبأي دعم قد تحتاج إليه، دون أي شروط، من أجل تحقيق أهداف قيادتها. وقد اعتبرت إسرائيل هذا التصريح بمنزلة ضوءٍ أخضر لا للاستمرار وحسب، بل للتصعيد أكثر، ومن غير المتصور أن البيت الأبيض لا يدرك ذلك تمامًا.

وكما كان متوقعًا، في ذلك المساء نفسه مُحي حي الكرامة الواقع في مدينة غزة، حيث أشارت فرق الإنقاذ إلى أن حجم الدمار قد فاق طاقتها بالكامل.

ومع ذلك، فشلت إسرائيل في إخفاء عجزها العسكري حتى عن بايدن، رغم الأساليب التي اتّبعتها في تعذيب سكان غزة؛ من قطع إمدادات الغذاء والمياه والدواء والكهرباء عن قطاع غزة، وزيادة تهديدات القادة الإسرائيليين بالإبادة الجماعية.

إن إرسال واشنطن مجموعة من حاملات الطائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لردع حزب الله عن فتح جبهة ثانية تضامنًا مع الفلسطينيين يدل على أن واشنطن أيضًا تدرك أن إسرائيل لم تعد قادرة على الدفاع عن نفسها دون دعم وتدخل أجنبي ضخم.

الضحية المثالية | غسان الكحلوت

انطلاقًا من كوني فلسطينيًّا ترعرع داخل حدود مخيم للاجئين في قطاع غزة، أُوْمِن بضرورة نشر أفكاري المتعلقة بالحرب الدائرة في غزة؛ إذ لا يمكن القبول بالانتقائية العلنية والتمييز الواضح اللذين يتّبعهما المجتمع الدولي في مواجهة الظلم وإدانته.

تعكس صدمة المجتمع الدولي، وما تلاها من تفاعل مع هذا الخطاب، سوء فهم عميقًا لمجريات الأحداث. لقد أتيحت لهم فرص عديدة لفهم طبيعة هذا "النزاع" والدخول في حوار هادف، ومن ثم ممارسة الضغط على الحكومة الإسرائيلية لمراجعة أعمالها، لكنهم استمروا في اختيار التقاعس عن القيام بأي دور.

أثارت الاتهامات الزائفة الموجهة للفلسطينيين استنكارًا كان أكبر من استنكار الجرائم الإسرائيلية الموثقة ضد أطفال غزة. يبدو أن على الفلسطينيين أن يكونوا "الضحية المثالية" ليكسبوا التعاطف، ولكن في كثير من الأحيان حتى عندما يكون الفلسطينيون كذلك يتم تهميشهم ونسيانهم.

وفي الواقع، لا يمكن تمجيد مهاجمة المدنيين، بل إن ضرورة حماية المدنيين أمر بالغ الأهمية، لكن معاناتي تنبع من سياسة الكيل بمكيالين عند التعامل مع المدنيين الفلسطينيين.

إن حرمان سكان قطاع غزة من أساسيات العيش مثل الغذاء والماء والكهرباء والمساعدات الطبية ليس مجرد "تكتيك حربي"، بل إنه اعتداء يستهدف سكان غزة المدنيين أنفسهم.

لقد اشتد صمت المجتمع الدولي، وأصبح الفلسطينيون مدركين تمامًا لهذه اللامبالاة، لذا فإن ثمة ضرورة ملحّة لإيلاء الاهتمام الكبير بتوثيق كل ضربة إسرائيلية. لقد ارتكبت جرائم حرب واضحة ومتكررة، ويجب محاسبة إسرائيل بموجب القانون الإنساني الدولي.

ومن المثير للقلق أن الحكومة الإسرائيلية مصممة على جعل جرائم الحرب التي ترتكبها بحق الفلسطينيين في غزة أمرًا طبيعيًّا، لتضمن استمرار جهودها الكبرى لمحو فلسطين والشعب الفلسطيني من الخارطة. وسيستمر الحال على ما هو عليه إلى أن يشعر الشعب الإسرائيلي ومؤسساته السياسية بأنهم قد كبّدوا الفلسطينيين خسائر فادحة في الأرواح وحققوا غايتهم بالانتقام، وربما إلى أن لا يبقى فلسطيني.

على العالم أن يدرك ما يحدث، وأن يتدخل ويدعو إلى تحقيق العدالة والمساءلة.

انضمام حزب الله | آمنة الأشقر

سيطر الخوف على ملايين المستوطنين الإسرائيليين المقيمين في الجزء الشمالي من فلسطين التاريخية، بالقرب من الحدود اللبنانية، لمدة 90 دقيقة، وذلك بعد أنباء عن هجوم كبير بواسطة طائرات بدون طيار ومحاولات تسلل محتملة من جهة جنوب لبنان.

إلا أن الجيش الإسرائيلي اعترف لاحقًا بأن الحادثة كانت إنذارًا وهميًّا تسبب به خطأ بشري. لقد جعل الهجوم الذي نفذه المقاتلون الفلسطينيون من غزة الأسبوع الماضي نظام الدفاع الإسرائيلي على أهبة الاستعداد.

مع تطور الأحداث في غزة تحولت الأنظار نحو جنوب لبنان، أو الحدود الشمالية لإسرائيل. ومن الواضح أن هذه الحدود شهدت تصعيدًا، وهو ما يثير تساؤلات ملحَّة: هل يفتح حزب الله اللبناني جبهة جديدة وينضم إلى الحرب على إسرائيل؟

تعود هذه التساؤلات والتوقعات أساسًا إلى انتماء حزب الله لما يُعرف بـ"محور المقاومة". إضافة إلى أن المناقشات التي جرت خلال الأشهر القليلة الماضية بشأن "توحيد الجبهات" تشير إلى وجود تعاون أوثق بين جماعات المقاومة، مثل حزب الله وحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، إلى جانب مجموعة من الفصائل الأخرى التي تدعمها إيران في العراق وسوريا واليمن.

وفي هذا السياق، بدا أنه من الصعب جدًّا على حزب الله أن يقف مكتوف الأيدي والحكومة الإسرائيلية تشن هجومًا شرسًا على الفلسطينيين في غزة من أجل القضاء على حماس وبنيتها التحتية.

ومن الواضح أنه يمكن لمشاركة حزب الله في هذه الجولة أن تؤثر بشدّة في الموقف، وذلك بسبب البنية التحتية العسكرية المتقدمة للحزب، والتي يمكن أن توسع نطاق الصراع الإقليمي، خاصة إذا أخذ في الحسبان دعم إيران لحزب الله.

ومما يزيد من حدة الموقف الدعم المفتوح الذي تقدمه دولٌ أوروبية للحكومة الإسرائيلية، وكذلك الدعم العسكري الأمريكي لأنظمتها الدفاعية.

وقد أفادت صحيفة وول ستريت جورنال، في تقرير لها الأسبوع الماضي، بوجود تعاون وثيق بين إيران وحزب الله وحماس في التخطيط للهجمات التي بدأت في 7 تشرين الأول/ أكتوبر. إذا ثبتت صحة ذلك التقرير، فإنه يشير إلى مستوى عالٍ من التخطيط والتنسيق، وهو ما قد يؤدي على الأرجح إلى اتفاق حول ما يمكن أن يشكل "خطوطًا حمراء" فيما يتعلق بالرد الإسرائيلي.

وتشير التوقعات إلى أن هذه الخطوط الحمراء ترتبط إلى حد ما بالهجوم البري الإسرائيلي المحتمل على غزة، وباحتمال مشاركة الولايات المتحدة على نحوٍ مباشر في النزاع. وسيؤدي تجاوز هذه الخطوط غالبًا إلى مشاركة حزب الله، وجهات فاعلة أخرى في المنطقة، في الحرب الدائرة.

وقد أكّد هذه التوقعات مقال نشرته صحيفة "الأخبار" اليومية المؤيدة لحزب الله في بيروت، في 9 تشرين الأول/ أكتوبر؛ إذ أشار المقال إلى أن قوات محور المقاومة حددت عتبة محددة تتعلق بالخطوط الحمراء المعروفة لدى الخصم. وإنّ تجاوز هذه العتبة تحت أي ظرف قد يشعل الجبهات، ربما معًا في وقت واحد.

ومع استمرار هذه الحرب، ثمة العديد من التوقعات حول احتمالية تجاوز تلك الخطوط الحمراء، ومن ثم انضمام أي فاعل إقليمي جديد إلى النزاع الدائر.

أزمةٌ لا مفرَّ منها | تامر قرموط

تعود جذور الأزمة الحالية في قطاع غزة إلى استمرار الاحتلال الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري الذي يطبّقه، إلى جانب فشل المجتمع الدولي المستمر في إحياء عملية السلام على نحوٍ فعّال.

والواقع هو أن الفلسطينيين في قطاع غزة ينشدون الحرية، وهم مستعدون لبذل أي ثمن في سبيلها؛ فقد دام بقاؤهم تحت طغيان الاحتلال مدة طويلة جدًّا، وليس أمامهم أي خيار آخر.

لقد أضرت عملية طوفان الأقصى بكبرياء الإسرائيليين وزعزعت إحساسهم بالأمن، ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية قد اختارت الآن محو قطاع غزة عن وجه الأرض، ويلوح في الأفق احتمال الغزو البري، وهو ما سيصعّد الأزمة ويثير العديد من الأسئلة.

فإذا كانت إسرائيل تسعى للإطاحة بسلطات الأمر الواقع في قطاع غزة، فهل تعلم من سيتولى السلطة بعد ذلك؟ وإذا أدى الغزو إلى موجة ثالثة متوقعة من التهجير الجماعي، فإلى أين سيذهب السكان المهجّرون في غزة بعد ذلك؟

ومع ذلك، لا يمكننا أن نفترض نجاح أي غزو إسرائيلي.

وربما تكون حماس قد سعت بالفعل إلى جر إسرائيل إلى غزة، نظرًا للقوة التي تتمتع بها حماس في حروب العصابات والحروب غير التقليدية، فالحرب التقليدية عفا عليها الزمن، ومن شأنها أن تصب في مصلحة الجيش الإسرائيلي. ويبدو أيضًا أن حماس سعت أيضًا إلى تذكير مختلف الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة بأنها لن تقبل بتهميشها، خاصة في ظل تحرك بعض الدول العربية نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

من الواضح أن حماس ترسي أسس نهج جديد للمقاومة في ضوء انهيار أعمال ما بعد أوسلو.

ومن المهم أيضًا أن ننظر إلى الأزمة الحالية في سياق تاريخي من الفرص الضائعة للمشاركة البناءة. لقد عزل المجتمع الدولي حماس، ومن ثم قطاع غزة، عندما فازت في انتخابات حرة وديمقراطية هناك.

ومنذ ذلك الحين، استخدمت إسرائيل والولايات المتحدة حق النقض لمنع المصالحة الفلسطينية الداخلية بين الفصائل، كما رفضتا دور حماس في أي حكومة وحدة يمكن أن تتولى الحكم في الأراضي المحتلة وتمثل صوت الفلسطينيين في مفاوضات السلام مع إسرائيل.

ومع ذلك، يتفاجأ المجتمع الدولي الآن بأن غزة وسكانها، البالغ عددهم 2.5 مليون نسمة، ربما لن يقفوا مكتوفي الأيدي في انتظار الموت البطيء على يد محتليهم.

كان لإقصاء حماس، عندما سعت إلى السلطة سلميًّا وديمقراطيًّا سابقًا، أثرٌ كبير في الأحداث الحالية. كان لا بدّ من مواجهة وتحدّي الوضع الراهن جذريًّا، وربما بعنف، نظرًا لأنها كانت دائمًا غير مستدامة.

انهيار الجدار الحديدي | طارق دعنا

كان للعملية العسكرية الفلسطينية الأخيرة دور في انهيار الهيمنة الاستراتيجية الإسرائيلية التي دامت طويلًا.

فقد سعت إسرائيل على مدى عقود من السياسة إلى خلق "جدار حديدي" من التفوق العسكري لردع المقاومة الفلسطينية، وذلك من خلال اتباع سياسة الرد المبالغ فيه على أي عملية تنفذها فصائل المقاومة. ومع ذلك، فإن سياسة الردع غير المتماثل هذه أصبحت الآن غير صالحة.

إن حجم وجرأة هجوم فصائل المقاومة يكشفان عن عدم جدوى البنية الأمنية الإسرائيلية التي تتبجح بها؛ فقد سحقت عمليات التسلل الدقيقة، والمناورات المنسقة، مليارات الدولارات التي أنفقت على التحصينات العسكرية والأمنية على طول قطاع غزة المحاصر بهدف فرض الحصار اللاإنساني.

أدى انهيار الدفاعات التي تبدو قوية إلى تصدع عقيدة الردع الإسرائيلية. وظهرت قدرة المقاومة الفلسطينية على استيعاب التكاليف المحتملة بإبداع، وعلى الاستمرار في فرض شكل النتائج الاستراتيجية.

بل إن صدمة العملية كانت أكثر تدميرًا من الناحية النفسية؛ لأن البراعة العسكرية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالروح الوطنية الإسرائيلية. تعمل المؤسسة العسكرية على التأثير من خلال الترويج للنزعة العسكرية لكونها ضرورية للحفاظ على المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني.

وقد أدى تزعزع أسطورة الجيش الذي لا يقهر، التي تقوم عليها الهيمنة العسكرية الإسرائيلية، إلى عواقب مدمرة بالنسبة للـ"مبدأ التنظيمي المركزي" لإسرائيل: وهو الجيش الذي ترتكز عليه النظرة الإسرائيلية المعسكرة للعالم ويُبنى عليه شعورهم بالهوية.

وفي سياقٍ أوسع، لا بدَّ لأيّ نظام إقليمي مستقبلي أن يدرك أن النضال الفلسطيني لا يزال محوريًّا وثابتًا رغم كل الجهود التي بذلتها الدول العميلة للولايات المتحدة في المنطقة لرفضه أو تهميشه، وأن القضية الفلسطينية ما زالت تحتفظ بصداها المركزي وثقلها الأخلاقي.

إن السعي لتحقيق العدالة الفلسطينية وتقرير المصير سيستمر في التأثير على الديناميات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. وأي حسابات دبلوماسية أو شراكات تبنى دون أخذ المسعى الفلسطيني لتحقيق العدالة وتقرير المصير في الحسبان ستبوء بالفشل.

ويسلط الهجوم الأخير الضوء على أن القضية الفلسطينية تظل محورية لتحقيق السلام العادل والدائم على الرغم من احتمال تغير التوازنات العسكرية؛ إذ إن إصرارها الصادق سيستمر في تحطيم الجدران، بالمعنى الحرفي والمجازي، حتى تسود الحرية والكرامة.