عندما أنشأت قطر مجمع الثمامة استعدادًا لاستضافة كأس العالم لكرة القدم 2022، كان الهدف الرئيس توفير إقامة مريحة للمشجعين القادمين من جميع أنحاء العالم. وقد صُمِّم بمزيج من العناصر الوظيفية والطراز المعماري المحلي، بما يعكس التزام قطر بإنشاء بنية تحتية متعددة الاستخدامات، على الرغم من الجدل الطويل والنقاشات المستمرة حول وفيات العمال المهاجرين التي وقعت أثناء بناء المجمع. ومع ذلك، لم يكن متوقعًا، عقب انتهاء البطولة وانحسار الاهتمام العالمي، أن يخدم هذا المجمع السكني غرضًا مختلفًا تمامًا، ما يزال قائمًا عليه منذ أكثر من عام إلى الآن.
ففي أعقاب كأس العالم، تحوّل مجمع الثمامة إلى مأوىً طارئ للنازحين من غزة، في ظل الحرب الإسرائيلية والقصف المستمر الذي خلّف دمارًا واسع النطاق. وقد انبثقت هذه المبادرة من مفاوضات إنسانية كان لقطر فيها دور محوري إلى جانب مصر، وهدفت إلى "كفالة 3000 يتيم، وتوفير الرعاية الطبية لـ 1500 جريح فلسطيني". ومنذ انطلاقها في 3 كانون الأول/ ديسمبر 2023، أجلت قطر أكثر من 500 جريح، وأكثر من 800 مرافق، و700 حالة خاصة. وإلى جانب جهود قطر، أُجلي 5500 فلسطيني إلى مصر لتلقي العلاج، في حين تلقى نحو 100 آخرين رعاية متخصصة في الإمارات العربية المتحدة.
ويقيم الآن النازحون في قطر في مجمع الثمامة، الواقع جنوبي العاصمة، حيث يواصل المصابون تلقي العلاج في مستشفيات مختلفة في جميع أنحاء البلاد.
وقد أصبح هذا المجمع جزءًا من استراتيجية قطر الأوسع نطاقًا في العمل الإنساني، حيث يوفر الدعم اليومي للنازحين من منطقة مزقتها الحرب. ومؤخرًا، قبل استئناف القصف الإسرائيلي، تم التوصل إلى وقف إطلاق نار مؤقت. وعلى الرغم من استمرار المعاناة الإنسانية طوال هذه الفترة، أتاحت الهدنة فرصة لاستخلاص الدروس المستفادة من النزاع، لا سيما من تلك المبادرات القليلة التي تجاوزت مرحلة المفاوضات الإنسانية. ويمكن أن تسهم هذه التأملات في توجيه الاستراتيجيات المستقبلية، ويبرز مثال إعادة توظيف البنية التحتية الرياضية الإمكانات المستدامة للمرافق التي شُيّدت من أجل الفعاليات العالمية، بحيث تؤدي دورًا جوهريًّا في أوقات الأزمات.
وقد برزت نماذج مشابهة خلال جائحة كورونا (كوفيد-19)، حيث استُخدمت الملاعب الرياضية لتلبية الاحتياجات الإنسانية، لا سيما في مواجهة الأزمة الصحية؛ فعلى سبيل المثال تحوَّل ملعب ماراكانا التاريخي في البرازيل إلى مستشفى ميداني لعلاج مرضى كورونا. وبالمثل، حوّلت اليابان أجزاءً من قرية الرياضيين لأولمبياد طوكيو 2020 إلى مرافق للرعاية الصحية والسكن، وهو ما يظهر قدرة الملاعب الرياضية على التكيف مع احتياجات الصحة العامة والاحتياجات الإنسانية. وكان هذا جزءًا من ظاهرة أوسع رُصدت في العديد من البلدان، حيث جرى تحويل مرافق كبيرة، مثل الفنادق والمدارس، مؤقتًا لتلبية الاحتياجات الصحية العاجلة خلال الجائحة.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أن قطر قطعت التزامات طموحة عند فوزها باستضافة كأس العالم، حيث تعهدت بجعل بطولة قطر 2022 الأكثر استدامة في تاريخ كرة القدم، لتخلّف بذلك إرثًا طويل الأمد للبطولة.
التداعيات السياسية والنفوذ العالمي
لا يقتصر تأثير هذا النهج الإنساني على النازحين بشكل مباشر فحسب، بل له أيضًا تداعيات أوسع نطاقًا تتعلق بنفوذ قطر الإقليمي والعالمي؛ إذ تعكس إعادة توظيف مجمع الثمامة مزيجًا من الالتزام الإنساني والحنكة الدبلوماسية، حيث تواصل قطر ترسيخ مكانتها بوصفها جهة فاعلة محورية في الوساطة والمبادرات الإنسانية. وتقدم هذه المبادرة مثالًا على كيفية توظيف الاستثمارات في الفعاليات العالمية لتحقيق أهداف إنسانية ودبلوماسية أوسع نطاقًا.
وفي ظل تعقيدات المشهد السياسي في الشرق الأوسط، تتوافق هذه الاستجابة الإنسانية مع استراتيجية قطر الأوسع للقوة الناعمة وجهودها في الوساطة لحل النزاعات، وهو ما يميزها عن دول الخليج الأخرى. وقد تناولت دراسات عديدة الكيفية التي استثمرت بها قطر مساعداتها الإنسانية على نحو استراتيجي في جميع أنحاء الشرق الأوسط، مستخدمةً مواردها لتعزيز علاقاتها الدبلوماسية وترسيخ استقرار تلك العلاقات مع الدول المتضررة من النزاعات. ويُعد هذا النهج جزءًا من مساعي قطر المستمرة لتوسيع نفوذها من خلال مبادرات إنسانية وتنموية موجهة في دول مثل سورية واليمن وفلسطين، حيث خلفت الأزمات في هذه الدول آثارًا فادحة على المدنيين. وعلى الرغم من اعتمادها نهجًا دبلوماسيًا يضع التعاون الدولي في صميم سياستها العالمية، فقد شدد المسؤولون القطريون مرارًا على الدوافع الأخلاقية والدينية والإنسانية الكامنة وراء هذه المبادرات، وذلك وفقًا لما جاء في تصريحاتهم العلنية والخاصة.
الاندماج المجتمعي والأثر بعيد المدى
على الرغم من الأثر الإنساني النبيل والمساعدة العاجلة المقدمة للمستفيدين من المبادرة داخل مجمع الثمامة، لا يزال مستقبل نازحي غزة يشكل مسألة مُلحة؛ فمع أنهم يتمتعون بحرية كاملة في التنقل داخل البلاد ولا يخضعون للإقامة الجبرية في المجمع، لا تزال التساؤلات مطروحة بشأن اندماجهم أو عودتهم المحتملة.
وتشير الدراسات إلى أن نجاح عملية الاندماج، حتى وإن كانت مؤقتة، يتطلب التركيز على مبادرات بناء المجتمع وتوفير الخدمات الاجتماعية. فعلى سبيل المثال تُظهر الأبحاث أن المشاركة المجتمعية الفعالة والتعاون مع مقدمي الخدمات الاجتماعية، لتحقيق التوازن بين احتياجات الأفراد والمجتمع، عامل أساسي لنجاح اندماج النازحين. علاوةً على ذلك، يضطلع المتخصصون الاجتماعيون بدور محوري في تشكيل تصورات المجتمع تجاه اللاجئين والتعامل مع التحديات المرتبطة باندماجهم، وهو ما يشير إلى أن إشراك المجتمع المضيف قبل وصول اللاجئين يُمكن أن يهيئ بيئة أكثر دعمًا. وتؤكد دراسات التماسك الاجتماعي الحاجة إلى دعم موجَّه، كالمساعدات الاقتصادية والخدمات الأساسية، لتخفيف التوترات التي قد تنشأ.
ومن خلال التفاعل الوثيق والملاحظة الميدانية، يبدو أن مجمع الثمامة، والقائمين على إدارته ودعمه، يسعون جاهدين لمواجهة هذه التحديات من خلال مبادرات متعددة، قد تقدم بعضها رؤى قيّمة في سياقات أخرى تتعلق بآليات الدعم الاجتماعي والمجتمعي. فإلى جانب ما توفره الجهات الحكومية من خدمات أساسية للسكان، ومن ضمنها الخدمات والاختصاصيون والموارد المادية، تتولى إدارة مجمع الثمامة -بالتعاون مع الجهات الحكومية والمؤسسات الخيرية القطرية- تقديم الرعاية الطبية اللازمة والدعم النفسي والموارد التعليمية، فالتحق الأطفال بالمدرسة الفلسطينية في قطر، وشارك العديد من النازحين في ورش عمل وأنشطة علاجية. وبالإضافة إلى ذلك تقدم مختلف المؤسسات القطرية المجتمعية والحكومية وشبه الحكومية مساهمات ملحوظة، من خلال تنظيم أنشطة اجتماعية وتعليمية ورياضية وترفيهية تشارك فيها فئات متعددة من النازحين. ويمزج العديد من هذه الأنشطة بين الجوانب الثقافية القطرية والفلسطينية؛ تعزيزًا للاندماج. ويشارك متطوعون من مختلف شرائح المجتمع القطري بفاعلية في هذه الجهود. ومع ذلك، تبقى مسألة الاندماج الكامل، أو بلورة خيارات مستقبلية بديلة، قيد البحث والمتابعة، لا سيما في ظل استمرار وجود بعض أفراد العائلات داخل غزة من دون سكن ملائم أو غيره من الاحتياجات الأساسية، مما يثير تساؤلات معقدة حول مصير الأسرة ولمّ شملها.
على أقل تقدير، في هذه المرحلة وإلى أن يتضح مصير هؤلاء النازحين، يمكن القول إن عدم تأثير هذه المبادرة بشكل كبير على الحياة اليومية للمجتمع المحلي في قطر أو الخدمات المقدمة له، على الصعيد الجماعي والفردي، يعني أن وجود نازحي غزة واندماجهم في قطر لم يواجِها أي رفض مجتمعي، بل على العكس من ذلك؛ يرى الكثير من أفراد المجتمع القطري أن هذه المبادرة أقل ما يمكن تقديمه لسكان غزة، انطلاقًا من القيم الإسلامية والأعراف العربية. ونظرًا للصعوبات الإنسانية الشديدة التي يعاني منها لاجئو غزة ومحدودية الوسائل المتاحة لدعمهم، فقد ساد شعور عام بالتضامن. وقد سمح هذا المنظور الجماعي للمبادرة التي تقودها الحكومة بالمضي قدمًا بسلاسة دون أي توتر داخلي.
الاعتبارات الاقتصادية والتعاون الدولي
من الناحية الاقتصادية، يمثل قرار إعادة توظيف مجمع الثمامة استثمارًا ضخمًا، إذ إنه لا يقتصر على تكاليف التحويل الأولية فحسب، بل يشمل النفقات التشغيلية المستمرة المتعلقة بالصيانة وتوظيف الكوادر وتوفير الإمدادات الأساسية؛ إذ يتطلب تشغيل منشأة بهذا الحجم لتكون مأوى إنسانيًّا موارد مستمرة لضمان توفير رعاية صحية وتعليم وخدمات اجتماعية كافية للنازحين. ومع ذلك، تشير التحليلات إلى أن فوائد المساعدات الإنسانية المستدامة قد تفوق بكثير النفقات الأولية؛ فإلى جانب الإغاثة الإنسانية الفورية، يسهم هذا النهج- حتى وإن كان محدودًا- في تحقيق استقرار اجتماعي طويل الأمد، ويعزز مشاعر التضامن بين شعوب المنطقة، ودعم التعاون عبر الحدود. وعلى الرغم من أن المسؤولين القطريين قد يتغاضون في كثير من الأحيان عن العوائد المادية المباشرة لهذه النفقات -وفق ما أشار إليه أحد كبار المسؤولين في حديث خاص- فإن هذه المبادرات غالبًا ما تحقق عوائد استراتيجية تتجاوز التكاليف المباشرة، نظرًا إلى القيمة الأشمل لدمج المشاريع الإنسانية ضمن استراتيجيات التنمية الوطنية. هذا بالإضافة إلى ما تساهم فيه هذه المبادرات من تعزيز الشراكات مع المنظمات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية، التي زار مديرها الإقليمي مجمع الثمامة وأدلى بتصريحات تُبرز دور قطر كجهة فاعلة إنسانية عالمية.
الخلاصة: إرث دائم
يجسد تحويل مجمع الثمامة من ملعب لكأس العالم إلى مأوى إنساني نموذجًا حيًّا لكيفية توسيع نطاق إرث الفعاليات العالمية وتعزيزه بمرور الوقت. وعلى الرغم من التحديات التي تواجه إعادة توظيف المرافق الرياضية لأغراض إنسانية، يظهر هذا النموذج إمكانات هائلة. وتسعى الدراسات الجارية، التي تقوم على الالتزام الصارم بالمبادئ الأخلاقية والإنسانية، إلى تقييم هذه التجربة حاليًّا لاستخلاص دروس قيّمة.
وفي الوقت الذي تستعد فيه دول أخرى لاستضافة فعاليات دولية، تمثل تجربة قطر في الثمامة شهادة على الأثر طويل الأمد الذي يمكن أن تُحدثه البنية التحتية بعد انتهاء الفعالية نفسها. فمن خلال التخطيط المسبق للاستخدامات الإنسانية، يمكن للدول ضمان استمرار استثماراتها في خدمة مجتمعاتها مدة طويلة حتى بعد مغادرة آخر مُتفرج، حيث يوسّع هذا التوجه من مفهوم الإرث الذي يمكن أن تخلفه الفعاليات العالمية ليتجاوز حدود الملاعب، مسلطًا الضوء على إمكانات إعادة توظيف البنية التحتية لتلبية الاحتياجات الإنسانية. وبينما تمثل مبادرة قطر سابقة جديرة بالتقدير، فإن أثرها طويل الأمد، سواء على النازحين أو على صعيد الاستخدام الأوسع للبنية التحتية بعد الفعاليات، سيظل يتبلور تدريجيًّا مع مرور الزمن.