عقد مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني ندوة بحثية بعنوان "أزمة الدولة الوطنية: السودان والطريق إلى الحكم المدني"، وذلك يوم الاثنين الموافق 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2022.

تسهيل الحوارات الوطنية متعددة المسارات

استُهلت الجلسة الأولى في الندوة بكلمة ترحيبية ألقاها الدكتور غسان الكحلوت، مدير مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني، الذي أكد بدايةً أن المركز يعمل كمؤسسة بحثية مستقلة في إنتاج المعرفة ورسم السياسات في مجالي إدارة النزاع والاستجابة الإنسانية، بما يجسر الهوّة ما بين النظرية والممارسة، ويساند الجهود العملية المتمثلة في الحوار وتحقيق السلام، ومن ذلك تنظيم الورشات وتسهيل الحوارات الوطنية متعددة المسارات التي تسعى لخدمة عملية السلام، من خلال بناء أرضيات مشتركة.

وأشار الدكتور الكحلوت إلى أنه وفقًا لاستطلاع المؤشر العربي الصادر عن برنامج قياس الرأي العام العربي في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تقريره الأخير لعام 2019-2020، فإن ثمة حالة من عدم الرضا الشعبي عن الوضع السياسي في السودان، إذ قيَّمه نحو 67 في المئة من السودانيين بأنه سيئ إلى سيئ جدًّا، وكان هذا خلال المرحلة الانتقالية بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، وقبل تشرين الأول/ أكتوبر 2021 وما تبعه من خروج الانتقال المدني المأمول عن مساره، ولعل الوضع اليوم أصبح أكثر سوءًا وتعقيدًا، لا سيما بعد الفشل في تأسيس الحكومة التي كانت مرتقبة مطلع هذا العام، ثم إعلان رئيس الوزراء استقالته، والاحتجاجات المستمرة حتى هذه اللحظة. وإن هذا التعسر في عملية الانتقال الديمقراطي ليؤكد الضرورة الملحّة والعاجلة لصياغة عملية سلام مدروسة وشاملة ومتكاملة، تؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق الاستقرار والنماء وتسهل الانتقال.

الهيكل السياسي السوداني وغياب المشروع القومي

بدأت أعمال الجلسة الأولى من الندوة بملاحظات قصيرة لرئيسة الجلسة السيدة نفيسة حجر، نائبة رئيس هيئة محامي دارفور، ثم كانت المداخلة الأولى للدكتور محمد يوسف أحمد المصطفى، الأستاذ بجامعة الخرطوم، تبعتها مداخلة للأستاذة هالة الكارب، المديرة التنفيذية لشبكة نساء القرن الأفريقي. وقد ركزت محاور الجلسة الأولى على: النظر في الدولة الوطنية في السودان، وبعض ملامح الفشل المتوارث، بالإضافة إلى البنية السياسية السودانية وإسهامها في استمرار الفشل السياسي.

أشار الدكتور محمد يوسف في مداخلته إلى أنه من المهم وصف الأزمة الحالية في السودان بدقة، من أجل وضع قواعد للانطلاق ضمن حوار منتج. وأوضح أنه في الوقت الحالي بدأ يتشكل نوع من الاعتراف بالأزمة، في حين كان البعض في السودان غير معترف بوجود أزمة، وآخرون يرونها أزمة مؤقتة، والبعض يراها موجودة. ويرى أن هناك حاجة إلى الاعتراف بأن الأزمة في السودان عميقة ومستمرة، ويمكن أن تطول، ومن أجل السير للأمام لا بد من التعمق في الأزمة، وهذا يستدعي ترك الخطاب التسفيهي للأزمة والبدء بالتفكير جديًّا وبذل جهود حقيقية لمعالجة الأزمة، موضحًا أنه ليست هناك طريقة للتقدم في معالجة الأزمة الخطيرة التي تهدد مصير السودان إلا من خلال التفكير بحرية بين كل الأطراف الموجودين داخل السودان، وهذا يقتضي التفكير خارج الصندوق؛ فالبقاء داخله إنما هو دوران في حلقة مفرغة من نفس الفكر المختص بالأزمة. وأكد أن الحوار لا يحدث عن طريق الأغلبية أو القوة، بل بالتوافق بين الناس.

ومن المهم جدًّا - وفقًا للدكتور محمد يوسف - الإشارة إلى مصادر الأزمة الراهنة التي تعانيها الدولة السودانية؛ وأولها الغياب المستمر لمشروع وطني متوافق عليه، فدائمًا كان هناك مشروع، لكن ليس متوافَقًا عليه، وهذا هو مصدر الأزمة، موضحًا أن السودان تشكل عبر صيرورة كان جوهرها القسر العسكري. كما أشار أنه إلى من المهم جدًّا للقيام بالمشروع الوطني ضمان رضا السودانيين بشكلٍ واعٍ، ومن الممكن إقناع السودانيين أن يكونوا جزءًا من هذا المشروع، لأنه يوحد بين أبناء الوطن وينزع فتيل العداوة والانفصال بينهم.

بدورها أشارت السيدة هالة الكارب إلى أنه منذ العام 1955 والسودان أسير لمتلازمة الحرب الأهلية، ولم يتمكن السودانيون لأكثر من خمسة وستين عامًا من وضع تصور ورؤية لماهية الدولة السودانية الموروثة عن الاستعمار الثنائي. ولعل انفصال الجنوب، وفشل التعاطي مع قضيته، كان ضربة لبنية الدولة وفضحًا للفساد. وأكّدت المتحدثة بإصرار أنه لم يكن هناك مشروع للحكم، بل كانت هناك محاولة للسيطرة على الحكم. وأشارت إلى أنه منذ ثورة كانون الأول/ ديسمبر 1955 لحظة تسليم الحكم للنخب السياسية تركز طموح السياسيين على الاستيلاء على بيت السيد (المستعمر)، ولم يفكروا ببناء بيت للسودانيين، أو تصليح بيت السيد في السودان.

وأوضحت أنه باستثناء المحاولات المجهَضة من قيادات سياسية متفردة في إيجاد أسس للدولة الوطنية، ظلت العملية السياسية ما بعد الاستقلال رهن الصراع على الحكم ومن يسيطر على الحكم. وقد شكلت ثورة كانون الأول/ ديسمبر- وفقًا للمتحدثة- بامتدادها الواسع فرصة للسياسيين السودانيين للتفكير في مشروع إعادة بناء الدولة، لكن كان من الصعب الاستمرار في العملية، فلا الأحزاب السودانية ولا المجتمع المدني تلقى الدعم الكافي، ولم يكن هناك استثمار في البنية السياسية للسودان.

ورغم قتامة المشهد الحالي في السودان، تعتقد الكارب أن هناك أملًا، لكن بحذر، من إمكانية أن يكون للسودانيين تأثير في الوضع أو تغيير مسار الأشياء. فالمسألة الأولى التي تلهم الأمل في التغيير أنه أصبح واضحًا للسودانيين فشل المؤسسة العسكرية وفشل بنية النظام السابق، مع الاتفاق على أن الديمقراطية تصلح للسودان؛ الديمقراطية التي يجب البدء بممارستها من النفس أولاً وتقبل الطرف الآخر. وأضافت أن مطالبات الشعب السوداني ليست مطالبات عبثية، بل تطلعات صادقة ومطالبات مشروعة ونتاج خبرات طويلة ومعرفة عميقة بمحدودية المؤسسة العسكرية وسعيها لزج البلاد في الهاوية؛ فالبنية الحالية لا تريد أن تخلق علاقة مع الشعب، وجل اهتمامها هو استغلال الموارد للتحكم في الشعب.


 


تحالف انقلاب 25 أكتوبر والتحول الديمقراطي

تابعت الجلسة الثانية في الندوة أعمالها، وأدارتها الأستاذة سارة عيسى، الناشطة في قضايا التحول الديمقراطي، بمداخلة  قدمتها الأستاذة رشا عوض، رئيسة تحرير صحيفة التغيير الإلكترونية، أكدت فيها أن السودان يعيش الآن في مأزق سياسي وجودي بحق، ومن ثم فللخروج من هذا المأزق لا بد من تشخيص ما يحدث بدقة. وعارضت القول بأن  ما يشهده السودان هو نتيجة الانشقاقات في الصف المدني؛

وتعتقد المتحدثة أن السبب الجوهري لانسداد الأفق وجود نظام قديم كان يريد أن يختصر التغيير في إزاحة البشير عن السلطة ثم مواصلة النظام كما هو، أو بتعديلات طفيفة لا تمس جوهر البنية الاستبدادية للنظام الحاكم. وأضافت أن الاصطفاف المدني للسودانيين هو ما ينتج الرؤية لمخاطبة المجتمع الدولي والإقليمي، وهو الذي يتولى ضبط وصياغة الخطاب الموجه للداخل السوداني قبل ذلك. وأكدت أن هناك خطوات تجري الآن في هذا الاتجاه، وترى أن ذلك يتطلب تسريع الإيقاع في ذلك لأن الفراغ السياسي الموجود حاليًّا ينذر بأن الخيارات سوف تتقدم، وأي مغامرة غير محسوبة النتائج قد تؤدي إلى اشتباك مسلح بين أطراف المكون العسكري، وهو ما قد يدفع السودان لحرب أهلية غير محسوبة تبعاتها.

تواصلت أعمال الجلسة الثانية بمداخلة أحمد الحاج، وهو ناشط سياسي ومدني لمبادرة الديمقراطية، ركّز فيها على مسألة فشل القوى الديمقراطية في السودان في إدارة خلافاتها بصورة ديمقراطية وهي تسعى لحكم ديمقراطي. وأشار إلى أن أي تحليل للسياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي في السودان لا بد أن يتطرق للقوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العديدة التي تتنازع بشدة على إعادة توزيع السلطة والثروة في السودان، فالسودان هو بلد الفرص وبلد التحديات كما يرى، وهو ببساطة دولة غنية جدًّا وغارق في الفقر في نفس الوقت. وأوضح أنه هناك مناهج مختلفة في السودان ومشارب متعددة تجعل من التوافق أمرًا صعبًا، وأشار إلى أن الحركات المسلحة في السودان تخضع حاليًّا لعملية إعادة نظر اجتماعية كبيرة على خلاف الوضع السابق.

 


تأتي الندوة انسجامًا مع التزام المركز بدوره في تعزيز الحوار البنّاء والمشاركة الجماعية وتحقيق السلام، حيث ينخرط مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني حاليًّا مع مجموعة كبيرة من الفاعلين في الشأن السوداني من أجل تطوير رؤية متماسكة بغية إعادة المسار الديمقراطي إلى طريقه الصحيح في السودان.

عُقِدت الندوة وجاهيًّا في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بالمبنى الثقافي، وبُثَّت مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي التابعة للمركز، وأرفقت معها الترجمة إلى اللغة الإنجليزية.