يمكن أن يساعد منظور الاستدامة الديمقراطية في تحديد أين ولماذا وكيف تعثرت الديمقراطية في العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003.

تم إعادة نشر هذه المقالة بإذن من منتدى الإستدامة الديمقراطية

بعد عشرين عامًا من الغزو الأميركي الذي أطاح بنظام صدام حسين الدكتاتوري الظالم، لا يزال سجل التحول الديمقراطي في العراق خليطًا من أمورٍ متنافرة شتى. تتناول هذه المدونة بإيجاز الأداء العراقي في مجال الاستدامة الديمقراطية، وعمليات التكيف والتصحيح الذاتي، ومواصلة التعلم والتغاضي الضرورية لاستمرار العمليات والمؤسسات والقيم والمهارات والممارسات التي تقوم عليها عملية التحول الديمقراطي.

وقد احتدم الجدل قبيل الحرب بين توقعات بحدوث هبّة ديمقراطية في الشرق الأوسط، وتوقعات متشائمة.  وضاهى الخطاب المنمّق للمعارضة العراقية السابقة عن التحوّل الديمقراطي في النظام السياسي بعد صدام دعاوى الغزاة الزائفة بشأن جلب الديمقراطية إلى العراق، بل إلى منطقة الشرق الأوسط بأكملها.

ولكنّ النظام الديمقراطي الذي أتى محمولًا على آلة الحرب الأميركية، والذي وُصف بأنه علاج لجميع العلل والأسقام التي يعانيها العراق، لم يكن تلك "الوصفة التي تعالج كل الأمراض"، حيث لا تزال استدامته هشة ومهتزة.

الاستدامة الديمقراطية هي أكثر من مجرد إشاعة الليبرالية، وإن مجرد إدخال زخارف الليبرالية السياسية؛ من قبيل حرية تشكيل الجمعيات وحرية التعبير والاقتراع العام، لا يؤدي إلى ديمقراطية مستدامة. فالتنمية الاقتصادية المتوازنة، والسلام والتماسك الاجتماعيان، ومن ضمن ذلك حماية الأقليات، والاستقرار السياسي، والحكم الرشيد، القائم على عناصر من قبيل مساءلة النخبة والشفافية وسيادة القانون واستجابة الحكومة لاحتياجات المواطنين والجماعات، كلها مكونات جوهرية للديمقراطية المستدامة. إلا أن الصورة ليست مشرقة في كثير من هذه النواحي.

الصخب الإعلامي

لقد جرت كثير من الانتخابات في العراق على مدى العقدين الماضيين، وشهدت البلاد تنافسًا محمومًا بين الأحزاب السياسية على السلطة، كما تدافعت العديد من منظمات المجتمع المدني للحصول على تمويل المشاريع وأموال المانحين.

 كذلك فقد تطور العراق ليصبح سوقًا إعلاميةً بارزةً، إن لم تكن السوق الأغنى في العالم العربي، فقد ولّت أيام الرقابة المستبدة والتغطية الصحفية العقيمة التي تميّز بها عهد حزب البعث، ولربما يكون الإعلام في عراق ما بعد صدام شديد الحيوية، إذ غالبًا ما تكون التقارير الإعلامية والنقاشات العامة نابضة بالحياة، بل قد تصل إلى درجة الصخب المحموم، حيث لا يندر وجود الادعاءات والتصريحات والتعليقات التشهيرية الصريحة في تغطية وسائل الإعلام العراقية.

لكنّ بعض المحاولات الحكومية لضبط الكلام أثارت المخاوف من أن الدواء قد يكون أسوأ من المرض ذاته، ومن الأمثلة على ذلك الخطوة التي اتخذتها الحكومة مؤخرًا لحظر ما سمّته "المحتوى الهابط" ومحاكمة كاتبيه. ذلك أن غياب تعريف قانوني دقيق لـ"المحتوى الهابط" يترك تفسير هذا المصطلح لتقدير المسؤولين الحكوميين، بل وربما لنزواتهم وأهوائهم. ويتوالى أيضًا استهداف الصحفيين العراقيين من قبل العناصر المسلحة أو المسؤولين الفاسدين ورجال الأعمال الذين يسعون إلى إسكات التقارير التي لا تناسبهم.

عيش الكفاف والكرامة

تحسنت الظروف المعيشية للعديد من العراقيين وفق كل المقاييس، لكن كثيرين آخرين لم يكن لهم نصيب مماثل من هذا الازدهار المستجد، حيث انخفض- على سبيل المثال- معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة من 42,7 في المئة عام 2002 إلى 25,4 في المئة عام 2020، كما انخفض انتشار نقص التغذية في إجمالي السكان من 17,9 في المئة في 2004-2006 إلى 15,9 في المئة في 2019-2021، إلا أن العدد الإجمالي للأشخاص الذين يعانون نقص التغذية ارتفع من 4,8 ملايين إلى 6,4 ملايين خلال المدة ذاتها؛ بسبب النمو السكاني، كما بلغ مستوى العجز الغذائي، الذي يقيس عدد السعرات الحرارية اللازمة لتلبية الاحتياجات الغذائية لشخص يعاني سوء التغذية، ذروته مرتفعًا من 155,457 سعرة حرارية في آذار/ مارس 2003، إلى 214,486 في شباط/ فبراير 2010 للسبب ذاته، ثم انخفض إلى 185 في شباط/ فبراير 2017. أما نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فقد بلغ من ناحية أخرى 4775,38 دولارًا أميركيًّا عام 2021، مسجلًا ارتفاعًا من 809,85 دولارات أميركيّة عام 2003. لكن الثروة تتركز في أيدي المسؤولين الفاسدين وأعوانهم، أما معظم العراقيين العاديين فيكسبون قوت يومهم بمعدل أقل كثيرًا من ذلك.

التوافقية والصراع

كان تقاسم السلطة، وهو سمة أساسية من سمات التوافقية، لعنة النظام الديمقراطي في عراق ما بعد الحرب. فقد فشل تقاسم السلطة بين المكونات في التخفيف من حدة الصراع الاجتماعي ونزع فتيله، حيث إنه بدلًا من ذلك ألهب الانقسامات الاجتماعية، وعمّق سياسات الهوية، وأذكى مشاعر الإقصاء والاستحقاق في المجتمع، وعزّز سرديات المظلومية فيه، وأجّج انعدام الثقة والمخاوف المشتركة بين الناس.

ليس التصويت في عراق ما بعد الغزو ممارسة حق من الحقوق العامة للمواطَنة، إذ نادرًا ما يصوت الناخبون لبرنامج يجسد رؤية للمصالح الوطنية والرخاء العام، بل إنهم يصوتون- إلى حد بعيد- على أسس مجتمعية مشاركين في المطالبة الجماعية بمصادر السلطة، لذا أصبح الخطاب السياسي في سياق كهذا مشبعًا بالتعبيرات الهدامة عن حقوق المكونات والاستحقاقات الجماعية.

حوّل تقاسم السلطة في نهاية المطاف الإدارة الحكومية إلى مكان تسوده الفوضى يتقاتل فيه القادة والنخب السياسية باستمرار على غنائم مناصبهم على حساب المصالح العامة للأمة. ولا عجب في أن مثل هذا النظام قد اعتاد على الترنح من أزمة سياسية إلى أخرى وأن عملية صنع القرار كثيرًا ما كانت تعاني من الشلل.

ومع كل مزالق التوافقية في العراق فلا شيء يفوق الفساد الهائل الذي ما زالت البلاد تعاني منه منذ عام 2003، فالفساد وصمة في سجل العراق في فترة ما بعد الحرب لا يمكن محوها. وبسبب تفضيل الولاء على الكفاءة والمساءلة، عزز تقاسم السلطة المحسوبية، ومحاباة الأقارب، والزبائنية، وسوء إدارة الحكومة إلى حد بعيد. كما تزداد صعوبة محاسبة المسؤولين الفاسدين بسبب توطيد أركان الحقوق المكوناتية في موارد السلطة، فأدى ذلك إلى تقويض ثقة الجمهور بمؤسسات الدولة، وهو ما سبب التآكل التدريجي لشرعية الدولة.

لقد أطاح الغزو الأميركي بديكتاتور وديكتاتورية، لكن احتمالات الاستدامة الديمقراطية في العراق لا تزال ضبابية مثل سراب الصحراء. والسبيل إلى تحسين الحكم الرشيد في العراق هو من خلال القيم والممارسات المدنية، وإشراك المواطنين، والترتيبات المؤسسية، والعمليات التي تتسم بالشفافية، وتوجهات العدالة الاجتماعية، وصنع السياسات التي تركز على الناس وتشمل الاستدامة الديمقراطية.


يمكنكم قراءة المقال باللغة الانجليزية (الأصلية) على موقع منتدى الإستدامة الديمقراطية