تم نشر هذا المقال في الأصل باللغة الإنجليزية على موقع DAWN
لن يكون من قبيل المبالغة القول: إن الحكم الأولي[1] الذي أصدرته محكمة العدل الدولية، يوم الجمعة، والذي يتعلق باتهامات لإسرائيل بالإبادة الجماعية، تاريخيّ. فقد ارتأت أعلى محكمة تابعة للأمم المتحدة في لاهاي أنه "من المعقول" أن إسرائيل ترتكب أعمالًا ضد الفلسطينيين في غزة تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية. وعلى الرغم من أن حكمها بأن إسرائيل قد ارتكبت إبادة جماعية ليس نهائيًّا، وقد يستغرق سنوات حتى تقرره المحكمة، فقد قضت محكمة العدل الدولية بأنها تتمتع بالاختصاص الذي يتيح لها المضي قدمًا في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا، رافضة الحجة الرئيسة التي قدمتها إسرائيل.
وقد أصدرت المحكمة تدابير مؤقتة لحماية سكان غزة المنكوبين من خطر الإبادة الجماعية، ومن بين هذه التدابير أن تضمن إسرائيل "على الفور" عدم ارتكاب قواتها العسكرية أيًّا من الأفعال المحظورة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، وأن تتخذ إسرائيل "كل التدابير" لمنع التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة والمعاقبة عليه. وقد مُررت التدابير المؤقتة الستة بدعم ساحق من قِبَل قضاة المحكمة السبعة عشر، بأغلبية 16 صوتًا مقابل صوت واحد، و15 صوتًا مقابل صوتين.
وفي هذه المرحلة من الإجراءات في لاهاي، اختُصرت القضية إلى مسألة واحدة: وهي ما إذا كانت محكمة العدل الدولية قد قررت أن جنوب أفريقيا قدمت اتهامًا معقولًا بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، وعلى هذا الأساس سمحت بانتقال القضية إلى جلسة استماع كاملة، وأي شيء آخر يُعد ثانويًّا. في هذه النقطة الحاسمة كان حكم المحكمة لا لبس فيه؛ إذ كانت الحجج التي قدمتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في وقت سابق من هذا الشهر مقنعة بما فيه الكفاية، وكان دحض إسرائيل ونفيها غير مقنع. ومن ثم ستجري محكمة العدل الدولية الآن جلسة استماع كاملة ومناسبة لتحديد ما إذا كانت إسرائيل متهمة لا "بشكل معقول" فقط، بل ومسؤولة بشكل جوهري عن جريمة الإبادة الجماعية في غزة.
وهنا كُتب التاريخ؛ فمنذ 26 كانون الثاني/ يناير 2024، لم يعد بإمكان إسرائيل ورعاتِها الغربيين استخدام الهولوكوست لحماية أنفسهم من المساءلة عن جرائمهم ضد الشعب الفلسطيني. وقد أشار راز سيغال، الأستاذ البارز في دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية، مؤخرًا إلى أن دولة إسرائيل تأسست في سياق من الإفلات من العقاب[2]. وقال: "إن فكرة أن الدولة اليهودية يمكن أن ترتكب جرائم حرب، فضلًا عن الإبادة الجماعية، كانت فكرة لا يمكن تصورها منذ البداية"، وأضاف: "لقد أصبح الإفلات من العقاب بالنسبة لإسرائيل جزءًا لا يتجزأ من النظام".
لقد انتهى كل ذلك.
وقد وصف الراحل إدوارد سعيد الشعب الفلسطيني بأنه "ضحايا الضحايا، ولاجئو اللاجئين"، كما كتب[3] كيف أن كثيرين في الغرب كانوا لا يكادون يتخيلون إسرائيل دولةً قادرة على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، نظرًا لأنها تأسست في أعقاب الهولوكوست. ولكن تغير هذا الوضع، فمنذ هذا اليوم اقترن اسم إسرائيل بجريمة الإبادة الجماعية بوصفها الجاني المحتمل، لا الضحية. ومن الآن فصاعدًا ستُقيَّم سياسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني بناءً على ممارساتها وقراراتها الخاصة، لا على أساس سياق التاريخ الأوروبي الطويل.
لقد أعادت محكمة العدل الدولية اليوم تعريف عبارة "لن يتكرر ذلك أبدًا"؛ فلم تعد هذه العبارة مجرد شعار يمكن لإسرائيل استخدامه لارتكاب وتبرير الجرائم بحق الآخرين، بل أصبحت الآن شعارًا ينطبق على أفعال إسرائيل، وعلى الضحايا الفلسطينيين على حد سواء.
إن القضاة في محكمة العدل الدولية ليسوا دبلوماسيين يتبعون تعليمات حكوماتهم، ومع ذلك كان أكثر ما يبعث على السرور أن نرى قرار المحكمة يصدر عن القاضية الأميركية جوان إي دونوغو، التي دعمت جميع التدابير المؤقتة التي اتخذتها المحكمة. وأثناء إصدارها للحكم، قرأت دونوغو العديد من التصريحات التي أدلى بها مسؤولون إسرائيليون منذ هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، والتي قدمتها جنوب أفريقيا دليلًا على نية إسرائيل بالإبادة الجماعية. وكان ذلك بمنزلة رد مناسب على استعجال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في الحكم بأن قضية جنوب أفريقيا "لا أساس لها من الصحة". فهل كلّف بلينكن نفسه عناء قراءة مذكرة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية؟ ربما يرى أن أي اتهام لإسرائيل، أو أي تحدٍّ لإفلاتها من العقاب، أو أي جهد لمحاسبتها على جرائمها، لا أساس له من الصحة بطبيعة الحال. فهل من المستغرب أن وزارة الخارجية الأميركية، في بيانها[4] حول الحكم، لا تزال تعد مزاعم الإبادة الجماعية "غير مبررة"؟
إن التدابير المؤقتة التي أمرت بها المحكمة قد تكون ملزمة قانونًا، ولكن ينبغي عدم الخلط بين محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؛ فالمحكمة ذاتها ليس لديها وسيلة لفرض أحكامها؛ بل إن الأمر متروك لمجلس الأمن لتمرير قرار بتنفيذها. ومع ذلك فإن التدابير المؤقتة الستة التي أصدرتها المحكمة بحق إسرائيل لا تزال مهمة، ومن ضمنها إلزام إسرائيل بتقديم تقرير إلى المحكمة في غضون ثلاثين يومًا عن مدى التزامها بهذه الأحكام. وبعبارة أخرى، فإن إسرائيل في قفص الاتهام، وتخضع لمراقبة دقيقة. لقد كان من المتوقع ألا تصدر المحكمة أمرًا بوقف إطلاق النار كما طلبت جنوب أفريقيا، وهو ما كانت إسرائيل ستتجاهله ببساطة بدعم من رعاتها الغربيين. وفي الواقع، هذه المسألة ليست جوهر القضية.
وأخيرًا، يفرض قرار محكمة العدل الدولية أيضًا التزامات قانونية على كل الدول الأخرى الموقعة على اتفاقية الإبادة الجماعية، ومن ضمنها الولايات المتحدة ودول في أوروبا. إن الشمس لا تشرق من الغرب، والنفاق الغربي- الذي يعد المبدأ الأساسي لـ"النظام الدولي القائم على القواعد"- لن ينتهي قريبًا، ومع ذلك يمهد قرار محكمة العدل الدولية الطريق لتحميل رعاة إسرائيل وداعميها المسؤولية في نهاية المطاف.
وكما وصف[5] الناشط والسياسي الفلسطيني مصطفى البرغوثي القرار: "لأول مرة منذ 75 عامًا تجرد إسرائيل من حصانتها أمام القانون الدولي"، وهو انتصار للمساءلة، وطال انتظاره.
[1] https://2u.pw/e23UVQG7
[2] https://2u.pw/AcqRvVIH
[3] https://2u.pw/cxT5ayDt
[4] https://www.aljazeera.com/news/2024/1/26/world-reacts-to-icj-ruling-on-south-africas-genocide-case-against-israel
[5] https://2u.pw/uMBIBOvN
تم نشر هذا المقال في الأصل باللغة الإنجليزية على موقع DAWN