​​​مقدمة:

رغم مرور ما يزيد على عامين ونصف على اندلاع الحرب في السودان في 15 نيسان/أبريل 2023 بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، فإنّ جهود الوساطة المتعاقبة لم تفلح في فتح مسارٍ تفاوضيٍّ جادٍّ أو وقفٍ مستدامٍ لإطلاق النار. فمنذ الأسابيع الأولى للصراع، تعدّدت المبادرات وتنوّعت منابرها: من مسار جدة برعاية سعودية – أميركية، إلى وساطة الهيئة الحكومية الدولية للتنمية في شرق إفريقيا (الإيغاد) المدعومة من الاتحاد الأفريقي، مرورًا بمحاولات لم تتوافر لها شروط الشفافية أو الاستمرارية مثل اجتماعات المنامة، ومع ذلك، ظلّ السؤال المركزي معلّقًا: كيف عجزت هذه المسارات جميعها عن إنتاج هدنةٍ يمكن البناء عليها، أو عن كبح الانهيار الإنساني الذي يطوّق ملايين السودانيين بين النزوح والجوع وتفكّك مؤسسات الدولة؟

في هذا السياق، جاء سقوط مدينة الفاشر ليكسر حالة الجمود ويعيد الحرب السودانية إلى واجهة الاهتمام الدولي.

 فبع عشرات الهجمات الموثَّقة من منظمات دولية وحقوقية مستقلة[1]، سقطت الفاشر – آخر منطقة حضرية خاضعة لسيطرة الدولة الرسمية في دارفور – في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2025 تحت سيطرة قوات الدعم السريع، عقب حصار دام ثمانية عشر شهراً، ورافقه انكشاف واسع لانتهاكات لقوات الدعم السريع ضد المدنيين من قتل وحرق واغتصاب وتدمير لمعسكرات النزوح واستهداف للعاملين في المجال الإنساني[2]؛ بعضها وثّقته كاميرات عناصر قوات الدعم السريع أنفسهم، ما دفع عدّة منظمات حقوقية إلى المطالبة بتصنيفها ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية[3].

وقد شكّل هذا الحدث الميداني صدمةً حرّكت المياه الراكدة في المشهد الدولي، حيث برز لأول مرة منذ شهور طويلة خطابٌ سياسي غربي يتحدّث عن ضرورة التدخل. ففي 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 صرّح الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عقب لقائه ولي العهد السعودي في واشنطن، بأن الولايات المتحدة "بدأت العمل على وقف الحرب في السودان بطلب مباشر من الأمير محمد بن سلمان"، موضحاً أن نظرته للوضع تغيّرت بعد ما تلقّاه من إيضاحات حول الأزمة من ولي العهد السعودي[4].

في ضوء ذلك، لم يعد سؤال الوساطة هو: لماذا فشلت؟ بل: ما الذي يمكن أن يتغيّر بعد الفاشر وبعد عودة الانتباه الدولي إلى الملف السوداني؟ وهل نحن أمام لحظة مراجعة للمسارات القائمة، أم مجرد إعادة إنتاجها بصيغ جديدة دون قدرة حقيقية على الاختراق؟

من هنا، يأتي هذا التقدير ليتتبّع مسارات الوساطة في السودان، ويقارب أسباب تعثّرها، ويفحص ما إذا كانت المستجدات الإقليمية والدولية – وفي مقدمتها سقوط الفاشر وتصريحات واشنطن – تفتح نافذة لاختراقٍ محتمل، أم تنذر بفصلٍ جديد من إدارة الأزمة، لا بتسويتها.

مشهد الوساطات بعد اندلاع الحرب

لم يكد الصراع المسلّح بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع يتجاوز أسابيعه الأولى، حتى بدأت الوساطات الإقليمية والدولية تتقدّم إلى الواجهة بوصفها المسار الأبرز لإدارة الأزمة واحتواء آثارها المتسارعة؛ فخلال الأشهر القليلة التي تلت اندلاع الحرب، نشطت قنوات دبلوماسية متعددة، بعضها اتخذ طابعًا رسميًا ومعلنًا[5]، وبعضها ظلّ حبيس التسريبات والاجتماعات المغلقة[6]، في محاولة لالتقاط خيوط تفاوضية أولية يمكن أن تحدّ من تفاقم الوضع الميداني وتمنع تحوّله إلى حالة صراع مفتوح يصعب التحكم في مآلاته. ومع ذلك، فإن هذا النشاط الدبلوماسي لم ينجح في تشكيل إطار منسجم لعملية الوساطة، بل اتّسم بتباين المبادرات وتعدد الجهات الراعية لها، وغياب منصة موحّدة قادرة على جمع الأطراف ضمن مسار تفاوضي واضح؛ فبرز منبر جدة بوصفه الوساطة الثنائية الأوسع حضورًا، واستُقبلت مبادرة الإيغاد باعتبارها أول تحرّك إقليمي ذي طبيعة مؤسسية، فيما ظهرت مسارات أخرى – مثل لقاءات المنامة السرية – كقنوات متقطعة لم تنجح في إيجاد مدخل تفاوضي فاعل أو إحداث اختراق ميداني ملموس[7].

ضمن هذا المشهد المتشظّي، يمكن تمييز نوعين رئيسين للوساطة: وساطات دولية وإقليمية منها منبر جدة، بصفته منصة ثنائية برعاية سعودية – أميركية، سرعان ما جرى توسيعها لاستيعاب الاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد؛ ومسار الإيغاد الذي انطلق من جيبوتي في إطار مؤسسي أوسع، عبر لجنة رباعية إقليمية، وقمة استثنائية للرؤساء والحكومات.

 وفي الجانب الآخر مبادرات ذات طابع ظرفي أو سري، مثل قمة دول جوار السودان التي استضافتها القاهرة، ومحاولة بلورة تفاهمات أولية في المنامة، ومساعي دولٍ أفريقية مجاورة للعب دور مساند، دون أن ترقى هذه المسارات إلى مستوى عملية تفاوضية مستدامة.

فيما يلي عرض للمنابر الرئيسة التي شكّلت مداخل الوساطة في السودان، مع تبيان طبيعتها ودينامياتها الأساسية:

أولًا: منبر جدة

دُشِّن منبر جدة في أيار/مايو 2023 بإعلان ركّز على حماية المدنيين أثناء العمليات الحربية وتيسير إدخال المساعدات الإنسانية، أعقبه توقيع اتفاق قصير الأمد لوقف إطلاق النار وترتيبات إنسانية في 20 أيار/مايو من العام نفسه، نصّ على هدنة لمدة أسبوع قابلة للتمديد، وربط ذلك بإجراءات عملية لتسهيل وصول الإغاثة إلى المناطق المتضررة[8]. لم يوسّع الإعلان نطاقه إلى القضايا السياسية؛ بل شدّد صراحة على أن الالتزام به «لن يؤثّر على أي وضع قانوني أو أمني أو سياسي للأطراف الموقّعة عليه»[9]، وأنه غير مرتبط بالانخراط في أي مسار سياسي لاحق، وهو ما حصر المنبر في مربع إدارة تبعات الحرب الإنسانية أكثر من التقدّم نحو معالجة أسبابها.

خلال الأشهر التالية، تكاثرت الهدن التي أُعلن عنها عبر منبر جدة أو خارجه، لكن معظمها لم يصمد؛ إذ توثّق تقارير صحفية انهيار ما لا يقل عن (12) هدنة متتالية خلال العام الأول للحرب، في ظل عجز الوسطاء عن فرض آليات رقابة أو جزاءات ملزِمة على الطرفين[10]

 توازى ذلك مع تفاقم الوضع الإنساني وفق تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، التي أشارت إلى اتساع نطاق انعدام الأمن الغذائي والنزوح وتدهور الخدمات الأساسية مع استمرار القتال [11]وفي الوقت نفسه، حافظت القيادة العسكرية للجيش السوداني على خطاب الحسم العسكري، وهو ما قلّل من هامش الاستعداد لتقديم تنازلات على طاولة التفاوض[12].

مع أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2023، عاد منبر جدة إلى الواجهة مع إعلان استئناف المحادثات بين الجيش وقوات الدعم السريع في المدينة، بعد قبول الطرفين دعوة الوساطة السعودية – الأميركية[13]. ترافق ذلك مع رسائل مزدوجة؛ إذ صرّح نائب قائد الجيش، الفريق شمس الدين كباشي، أمام ضباط القوات المسلحة بأن الذهاب إلى التفاوض “لا يعني التفريط في معركة الكرامة"، في محاولة لطمأنة القواعد الداعمة لمسار الحسم العسكري[14]. وفي المقابل، ركّزت قوات الدعم السريع في بياناتها على ربط قرار الجيش بقوى “الإسلاميين"، في استمرار لخطابها الذي يتّهم خصومها بأنهم أسرى نفوذ النظام السابق[15].

في هذه الجولة الثانية؛ عمل الوسطاء على تطوير بنية المنبر وآلياته؛ فصدر بيان مشترك عن هيئة الميسِّرين في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2023 حدّد بوضوح أن أجندة المحادثات ستتركّز حول ثلاث قضايا: تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، وتحقيق وقف إطلاق نار وإجراءات لبناء الثقة، والبحث في إمكان الوصول إلى وقف دائم للأعمال العدائية، مع التأكيد صراحة على أن المحادثات “لن تتناول قضايا ذات طبيعة سياسية"[16]. جرى في الوقت نفسه توسيع هيئة الميسِّرين لاستيعاب الاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد عبر ممثّل مشترك، في محاولة للمواءمة بين منبر جدة وخارطة الطريق التي طرحها الاتحاد الأفريقي لتسوية النزاع في السودان، والتي دعت إلى توحيد المنابر ضمن آلية موسَّعة لمتابعة الأزمة[17].

مع ذلك، انتهت الجولة الثانية إلى تعليق المحادثات بعد نحو شهر، بعدما فشل الطرفان في التوصّل إلى تفاهمات عملية بشأن إنهاء المظاهر العسكرية في الأعيان المدنية، وترتيبات إعادة المعتقلين الفارّين من رموز النظام السابق، ومسارات ومطارات تمرير المساعدات الإنسانية[18].

 وهكذا ظل منبر جدة، على الرغم من كثافة الجولات التي استضافها، أقرب إلى مسار لإدارة وقف إطلاق النار المؤقت وترتيبات الإغاثة، من أن يكون إطارًا جامعًا لمسار سياسي تفاوضي شامل.

ثانيًا: مسار الإيغاد

في موازاة تحرّكات منبر جدة، أطلقت الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا (الإيغاد) مسارًا موازيًا منذ اجتماع الدورة العادية الرابعة عشرة على مستوى رؤساء الدول والحكومات في جيبوتي، في 12 حزيران/يونيو 2023، حيث اعتمدت خارطة طريق رباعية الخطوات لإيقاف الحرب في السودان. نصّت الخارطة على توسيع وفد الوساطة ليضم كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان وجيبوتي برئاسة كينيا، والعمل على ترتيب لقاء مباشر بين قائد الجيش وقائد قوات الدعم السريع خلال عشرة أيام، وفتح ممرات إنسانية آمنة خلال أسبوعين، والبدء في عملية سياسية شاملة خلال ثلاثة أسابيع[19].

في أول اجتماع للجنة الرباعية، المنعقد في 10 تموز/يوليو 2023، كرّست الإيغاد هذا التوجّه عبر التأكيد على تسهيل عقد اجتماع بين الطرفين، وحشد المساعدات الإنسانية، ودعم “حوار سوداني بقيادة سودانية"، مع التلويح بخيار حشد قوة التدخل السريع لشرق أفريقيا (إيساف) التابعة للهيئة كأداة محتملة لدعم الاستقرار الميداني[20]. غير أن هذا المسار أثار سريعًا تحفظات قيادة الجيش السوداني التي اعتبرت طرح “إيساف" مساسًا بالسيادة الوطنية، وهو ما ظهر في تصريحات مساعد القائد العام، الفريق ياسر العطا، الذي وجّه رسالة حادّة إلى الرئيس الكيني مطالباً له بعدم التدخل في الشأن الداخلي السوداني[21] .

لاحقًا، أعلنت وزارة الخارجية السودانية رسميًا رفضها رئاسة كينيا للجنة الرباعية، ووصفتها بأنها منحازة إلى قوات الدعم السريع، وهدّدت بإعادة النظر في جدوى استمرار السودان في منظمة الإيغاد إن لم يُستجَب لطلب تغيير الرئاسة[22]. وعلى الرغم من أن الاجتماع الثاني للجنة، في 6 أيلول/سبتمبر 2023، كرّر التعهّدات الخاصة بالمساعدات الإنسانية، فإن المسار لم ينجح في تثبيت وقفٍ لإطلاق النار أو فتح ممرات آمنة بشكل مستدام[23].

مع تصاعد تعثّر اللجنة الرباعية، نقلت الإيغاد الملف إلى مستوى أعلى عبر قمتها الاستثنائية الحادية والأربعين في جيبوتي في 9 كانون الأول/ديسمبر 2023، التي اعتبرت أن اللجنة الرباعية أدّت مهمتها “باقتدار"، واعتمدت تقريرها، وقررت أن تتولّى الجمعية العامة للهيئة بنفسها قيادة جهود تسوية الحرب في السودان[24]. صدر عن القمة التزام بدعم عملية سياسية شاملة يقودها المدنيون، وتحديد هدف الانتقال إلى حكم ديمقراطي مدني، إلى جانب إدانة التدخلات غير المبرَّرة من قبل جهات خارجية حكومية وغير حكومية في الصراع.

في المقابل، ربطت قيادة الجيش السوداني تعاملها مع مقترحات الإيغاد، المدعومة من الاتحاد الأفريقي، بشرط إعادة عضوية السودان المعلّقة في الاتحاد منذ انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، معتبرة أن استمرار التعليق يناقض خطاب الوساطة القائم على الشراكة مع السلطات القائمة[25]. وهو ما أضاف طبقة جديدة من التعقيد على مسار الإيغاد، وأضعف قدرته على التحوّل إلى منصة تفاوضية جامعة.

ثالثًا: قمة دول الجوار ومسارات أخرى متقطّعة

إلى جانب منبر جدة ومسار الإيغاد، حاولت دول عربية وأفريقية لعب أدوار مكمّلة في احتواء الأزمة. فقد استضافت القاهرة قمة دول جوار السودان بعد أشهر قليلة من اندلاع الحرب، وشاركت فيها دول معنية مباشرة بتداعيات النزاع على حدودها وأمنها، غير أن القمة لم تُسفر عن وثيقة ملزِمة تتضمن آليات تنفيذية واضحة، وبقيت نتائجها في إطار تأكيد المواقف العامة والدعوة إلى وقف إطلاق النار والحوار السياسي[26].

في مسار آخر، ظهرت إلى السطح اتصالات غير معلنة دارت في المنامة بين ممثلين عن الجيش وقوات الدعم السريع، بعد تسريب ما عُرف إعلاميًا باسم “اتفاق المنامة"، الذي قيل إنه تضمّن خطوطًا أولية لترتيبات وقف إطلاق النار وإدارة المرحلة الانتقالية، قبل أن يُواجه بنفي أو تحفظ من أطراف عدّة، وأن يظل خارج إطار الإقرار الرسمي من الوسطاء أو الطرفين[27].

رابعًا: مبادرة جنيف

في ظل تعثّر منبر جدة وتراجع زخم مسار الإيغاد، ظهرت مبادرة جنيف في النصف الثاني من عام 2024 بوصفها محاولة أوروبية–أممية لفتح قناة مختلفة تجاه النزاع السوداني، بدأت الفكرة من اجتماعات تحضيرية ضمّت ممثلين عن الأمم المتحدة وبعض الدول الأوروبية وخبراء قانونيين وحقوقيين، مع توجيه دعوات انتقائية لأطراف سودانية رسمية وغير رسمية للمشاركة في نقاشات ركّزت على فتح الممرات الإنسانية، ووضع قواعد دنيا لحماية المدنيين، وآليات التوثيق الحقوقي للانتهاكات. وفي هذا السياق، أعادت المبادرة الأمم المتحدة إلى الواجهة بعد شهور من التراجع، لكنها لم تتحوّل إلى منصة تفاوضية مستقرة، ولا إلى بديل منسّق لمسارات جدة والإيغاد. فقد ظلّ حضور الأطراف السودانية مترددًا؛ إذ تعاملت قيادة الجيش مع المبادرة بحذر خشية أن تتحوّل جنيف إلى محاولة شرعنة جديدة لقوات الدعم السريع، بينما نظرت قوات الدعم السريع إليها باعتبارها فرصة لتحسين صورتها الخارجية أمام الرأي العام الأوروبي، من دون تغيير سلوكها الميداني أو قبول أي ضوابط سياسية[28].

محدّدات تعثّر مسارات الوساطة

تكشف متابعة مسارات الوساطة في السودان أنّ الإخفاق لم يكن عارضًا أو مرتبطًا بجولة بعينها، بقدر ما كان نتاجًا لبنية مختلّة حكمت تصميم هذه المسارات وطريقة إدارتها. فقد أتاح تعدّد المنابر، من جدة إلى الإيغاد وصولًا إلى قمة دول الجوار واتصالات المنامة وجنيف ، نشوء حالة يمكن توصيفها بما تُسمّيه أدبيات فضّ النزاعات                                                                                               بـ “تسوّق المنابر “(Forum shopping)، حيث وجد طرفا الحرب في هذا التزاحم الدبلوماسي فرصة للمناورة بدل الالتزام؛ فصار كلّ منهما ينتقل بين المنصات بحثًا عن أفضل موقع تفاوضي، مستفيدًا من التناقضات بين الوسطاء ومن غياب مرجعية واحدة تفرض تسلسلًا واضحًا في الخطوات وتحدّد الكلفة السياسية للتنصّل من الالتزامات[29].

إلى جانب ذلك، ظلّت الإرادة السياسية لإنهاء الحرب هشّة لدى الطرفين. فقد تعاملت القيادة العسكرية للجيش السوداني مع الوساطات بوصفها ملحقًا تكتيكيًا يخدم هدف الحسم العسكري، لا بديلًا عنه؛ وهو ما ظهر في الاستمرار في خطاب «معركة الكرامة» بالتوازي مع الذهاب إلى جدة أو التفاعل مع الإيغاد. في المقابل، نظرت قوات الدعم السريع إلى معظم المبادرات كفرصة لتحسين موقعها الخارجي وتخفيف الضغوط الحقوقية، أكثر من كونها مسارًا جادًا للتنازل المتبادل. وقد ساهمت تطورات الميدان المتغيرة مع الزمن– في ترسيخ قناعة لدى الطرفين بأن تعديل موازين القوى بالسلاح أسبق من أي مقايضة سياسية على طاولة التفاوض[30].

يتصل بذلك خلل بنيوي في تصميم العملية التفاوضية ذاتها، سواء في منبر جدة أو في مسار الإيغاد ومبادرة جنيف؛ إذ بُنيت معظم الصيغ على منطق ثنائي يختزل النزاع في الجيش وقوات الدعم السريع، مع تهميش منتظم لقوى مدنية رئيسة، ولحركات دارفور المسلحة المتحالفة مع الجيش السوداني التي تجد نفسها في قلب المعارك، ولشبكات اجتماعية وسياسية واسعة متأثرة بالحرب. وقد عبّرت بعض هذه الفاعليات صراحة عن رفضها لأي مسار لا يضمّها، كما فعلت حركة جيش تحرير السودان في بيانها قبيل لقاء جنيف حين اعتبرت أن مفاوضات تُعقَد «في غياب أطراف موجودة في قلب القتال» لن تُفضي إلى شيء[31]. هذا الاختزال زاد من هشاشة الشرعية التمثيلية لمسارات الوساطة، وفتح بابًا واسعًا للطعن في أي اتفاق محتمل باعتباره صفقة بين طرفين عسكريين لا يمتلكان تفويضًا سياسيًا واجتماعيًا كافيًا لإعادة تعريف الدولة ما بعد الحرب.

من زاوية أخرى، ساهمت إشكالات الحياد في تقويض الثقة ببعض الوسطاء، خصوصًا مع تصاعد اتهامات الجيش لبعض الدول بكونها طرفًا منخرطًا في الحرب لا وسيطًا، كما في حالة رفضه العلني لأي دور للإمارات في رعاية مسار تفاوضي باعتبارها متهمة بدعم قوات الدعم السريع. هذا النمط من الاعتراض لا يقتصر على مستوى الخطاب، بل ينعكس مباشرة على قابلية الأطراف للجلوس إلى طاولة ترعاها دولة يُنظر إليها كجزء من المشكلة .

وأخيرًا، أسهم الخلط المستمر بين ما هو إنساني وما هو سياسي في تعميق حالة التعثّر. فقد انطلقت بعض المسارات، مثل إعلان جدة، من مدخل حماية المدنيين والممرات الإنسانية مع تأكيد متكرّر على أنها لا تمسّ «الوضع القانوني أو السياسي» للأطراف، ثم عادت الخطابات ذاتها لتزجّ بقضايا شديدة الحساسية – مثل من يحكم في المرحلة الانتقالية، وحدود مشاركة المدنيين، وموقع الإسلاميين والقوى المرتبطة بالنظام السابق – في قلب النقاش حول الوساطة، من دون إطار واضح لإدارة هذه الملفات. وهكذا تحوّل ما كان يُفترض به أن يكون قاسمًا مشتركًا أدنى؛ أي حماية المدنيين وإيصال المساعدات إلى ميدان إضافي لاستعراض المواقف، بدل أن يكون نقطة بداية لبناء ثقة تمهّد لنقاش أوسع حول شكل الدولة ما بعد الحرب.

بهذه العوامل مجتمعة؛ تشظّي المنابر، هشاشة الإرادة السياسية، ضيق التصميم التفاوضي، أزمات الحياد، والخلط بين الإنساني والسياسي، تحوّلت الوساطة في السودان من مسار يُعوَّل عليه لإنهاء الحرب إلى جزء من بنية الاستعصاء ذاتها؛ بنية تُدار فيها الأزمة، لكن من دون الاقتراب الجدي من جذورها أو تفكيك آليات استمرارها.

مآلات الاختراق: سيناريوهات المستقبل

في ضوء التحولات التي أعقبت سقوط الفاشر وتجدد الاهتمام الدولي بالملف السوداني، يظهر أن إمكان الاختراق – إن وُجد – لن يأتي من داخل المنابر القائمة بصيغتها الراهنة، بل من إعادة هندستها سياسيًا وأداتيًا والميل إلى مقاربة أكثر مباشرة تجاه بنية الوساطة نفسها؛ إذ لم يعد مقبولًا أن تتولى بعض الدول – المتهمة بالانخراط العسكري أو التمويل – أدوارًا وسيطة دون إعادة النظر في موقعها. هنا بالضبط يبرز احتمال إعادة تشكيل «الرباعية» لتصبح منصة أكثر توازنًا، بإضافة دول أخرى (مثل قطر وتركيا) واستبعاد الدول المتهمة بالتورط في النزاع (مثل الإمارات)، ما قد يعيد قدرًا من الحياد ويمنح الوساطة غطاءً سياسيًا مختلفًا من دون اختراع منبر جديد.

وبدوره، جاء اللقاء الذي عقده البرهان مع كبار قادة القوات المسلحة يوم الأحد 23 نوفمبر 2025 ليكسر روتين الوساطة التقليدية ويدرج الشرطية في بنية التفاوض قبل محتواه. إذ أعلن رفضه لأي وساطة تضمّ الإمارات، مصرحًا بأن «الرباعية ليست مبرئة للذمة إذا كانت الإمارات جزءاً منها» [32]، معلنًا أن أي سلام لا يُفكّك المليشيا هو في الواقع استمرار للحرب تحت طائل التفاوض، وهو خطاب لا يغلق الباب أمام الوساطة، لكنه يرفعه إلى مستوى أعلى من المشروطية السياسية.

سيناريو آخر يمكن توقعه إذا بقيت قناعة الطرفين بأن تعديل موازين القوى عسكريًا هو المدخل الأجدى إلى التفاوض، فإن المسار الأرجح هو تبلور صيغة ''الانقسام بحكم الأمر الواقع''؛ أي نظامان فعليان، وشبكات إدارة منفصلة تتطبع في وعي السكان ومعاملاتهم اليومية. لا يُعلن هذا الانقسام رسميًا، لكنه يُكرّس عبر تتبع مسارات الإنفاذ: جمارك مختلفة، ضرائب منفصلة، ومؤشرات اجتماعية تتعامل تدريجيًا مع هذا الواقع كرسمٍ صامت لحدود جديدة داخل الدولة الواحدة. وفي لحظة كهذه، لا تعود الوساطة سوى بحثٍ عن ''ترتيب إداري'' لما بعد الانفصال الواقعي، حتى لو لم يُعلَن كدولة.

تُقابل كل ذلك «حالة الانتظار الطويل» التي تبدو الآن الخيار المفضّل للطرفين: لا هجوم حاسم ولا تنازل تفاوضي، بل إدارة زمن الإنهاك حتى الوصول إلى نقطة ضعف غير معلنة تجعل أحد الطرفين أكثر قابلية للتفاوض. هذا المنطق – وإن بدا براغماتيًا – يحمل أخطارًا حقيقية؛ إذ لا تديره السياسة بقرار مركزي، بل يتحكم به مستوى الطاقة الاجتماعية القابلة للعيش تحت الحرب. هنا بالضبط يُصبح الانهيار الاجتماعي عنصرًا حاكمًا للمعادلة من دون أن يملك أدوات التعبير السياسية. وقد ظهرت بوادر ذلك في نمط التظلّم الأهلي، وتناقص الروابط الأفقية، وارتفاع تكلفة الخدمات الأساسية، بما يجعل ''الهدنة المجتمعية'' أكثر هشاشة من ''الهدنة العسكرية''، وأقرب إلى نقطة الانهيار منها إلى نقطة الاستقرار.

خاتمة:

يتبيّن من مجمل مسارات الوساطة أنّ المعضلة الأساسية لا تكمن في تعدّد المبادرات أو نقص الإرادة الدولية فحسب، بل في الطريقة التي بُنيت بها الوساطة نفسها؛ إذ أُسندت أدوار حسّاسة إلى أطراف يُنظر إليها كجزء من النزاع، الأمر الذي أفقد العملية التفاوضية حيادها وأضعف فرص الالتزام بنتائجها. وبدل أن تُنتج هذه المسارات إطارًا متوافقًا يمكن البناء عليه، ازدادت الفجوة بين منطق التفاوض ومتطلبات الواقع الميداني، ما جعل الوساطة أقرب إلى إدارة الأزمة منها إلى حلّها.

تبعًا لذلك، تبدو السيناريوهات المفتوحة على السودان مشروطة بقدرة الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين على الانتقال من منطق إطالة أمد الصراع، أو القبول الضمني بالانقسام بحكم الأمر الواقع، إلى منطق البحث الجاد عن تسوية. وإذا لم تُراجَع قواعد الوساطة، وتُعاد صياغة أدوار الوسطاء، فإن استمرار حالة الجمود سيزيد من ترسُّخ الوقائع الميدانية، ويعمِّق الكلفة الإنسانية والاجتماعية للصراع، من دون أن يقترب السودان خطوة حقيقية من سلام مستدام يمكن أن يعيد لِحمة الدولة والمجتمع معًا.

المراجع

[1] Human Rights Watch. Sudan: Mass Atrocities in Captured Darfur City. 29 October 2025. Accessed on 25 November 2025. At: https://www.hrw.org/news/2025/10/29/sudan-mass-atrocities-in-captured-darfur-city

[2] The Guardian. “'A Sudanese Massacre Foretold': The Grim Familiarity of the RSF's Rampage through El Fasher." 1 November 2025. Accessed on 25 November 2025. At: https://www.theguardian.com/world/2025/nov/01/sudan-massacre-rsf-rampage-el-fasher

[3] Office of the United Nations High Commissioner for Human Rights (OHCHR). Sudan: Appalling Reports of Summary Executions and Other Serious Violations by RSF after Seizing El Fasher. 27 October 2025. Accessed on 25 November 2025. At: https://www.ohchr.org/en/press-releases/2025/10/sudan-appalling-reports-

[4]Reuters, “Trump says he will work on Sudan at Saudi leader's request," 19 November 2025. Accessed on 25 November 2025, at: https://www.reuters.com/world/africa/trump-says-he-will-work-sudan-saudis-request-2025-11-19/

[5] الجيش السوداني والدعم السريع يعودان لطاولة المفاوضات بجدة"، قناة الحدث، يوتيوب، 26/10/2023، شوهد في 24/11/2025، في: https://www.youtube.com/watch?v=oHD34dRYDjA

[6] "'الشرق الأوسط' تحصل على 'اتفاق المنامة' بين الكباشي ودقلو"، الشرق الأوسط، 19/2/2024، شوهد في 23/11/2025، في: https://tinyurl.com/bdzza22h

[7] Ameer Chughtai and Theodore Murphy, “Conflict and interests: Why Sudan's external mediation is a barrier to peace," European Council on Foreign Relations (ECFR), 8 September 2023, accessed on 24 November 2025, at: https://ecfr.eu/article/conflict-and-interests-why-sudans-external-mediation-is-a-barrier-to-peace/

[8]“إعلان جدة الصادر عن القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع" ، وزارة الخارجية السعودية، 12/5/2023، شوهد في 25/11/2025، في: https://2u.pw/rbNP6Bs

[9] Ibid

[10] محمد العربي، «12 هدنة انهارت… لماذا تفشل جهود إنهاء الحرب في السودان؟»، الجزيرة نت، 23/6/2023، شوهد في 25/11/2025، في:

https://tinyurl.com/y5jrp9db

[11] United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA).

“Sudan Humanitarian Situation Report." Reliefweb. Accessed on 24 November 2025. at: https://reliefweb.int/country/sdn

[12]  Reuters, “Sudan army, paramilitary RSF to return to negotiations," 25 October 2023, accessed on 25 November 2025, at: https://www.reuters.com/world/africa/sudan-army-delegation-set-return-saudi-complete-talks-with-rsf-2023-10-25/

[13] «الجيش يصدر بيانًا حول استئناف مباحثات جدة اليوم»، موقع أخبار السودان، 26/10/2023، شوهد في 25/11/2025، في: https://www.sudanakhbar.com/1444171

[14] قناة طيبة، «لقاء الفريق أول ركن شمس الدين كباشي مع ضباط وادي سيدنا – الحديث عن استئناف التفاوض الخميس المقبل»، YouTube، 23/10/2023، شوهد في 25/11/2025، في:  https://www.youtube.com/watch?v=Q-pljj49EaE

[15] «الدعم يصدر بيانًا حول استئناف مباحثات جدة اليوم»، موقع أخبار السودان، 26/10/2023، شوهد في 26/11/2025، في:

https://www.sudanakhbar.com/1444218

[16] "بيان مشترك"، وزارة الخارجية السعودية، منصّة X، 29/10/2023، شوهد في 26/11/2025، في: https://twitter.com/KSAMOFA/status/1718579481512693862

[17] African Union – Peace and Security Council, “Communiqué of the 1156th Meeting of the PSC, Held at the Level of Heads of State and Government, on 27 May 2023, on the Situation in Sudan", 27 May 2023, accessed 26 November 2025, at: https://www.peaceau.org/en/article/communique-of-the-1156th-meeting-of-the-psc-held-at-the-level-of-heads-of-state-and-government-on-27-may-2023-on-the-situation-in-sudan

[18] Arab Center Washington DC, “The Failure of the Jeddah and IGAD Mediation Efforts for Sudan," 19 August 2024, accessed 26 November 2025, at: https://arabcenterdc.org/resource/the-failure-of-the-jeddah-and-igad-mediation-efforts-for-sudan/

[19] "Final Communiqué of the 14th Ordinary Session of the IGAD Assembly of Heads of State and Government," IGAD, 12/6/2023, accessed on 25/11/2025, at:

https://igad.int/wp-content/uploads/2023/06/FINAL-COMMUNIQUE-OF-THE-14TH-IGAD-ORDINARY-ASSEMBLY-OF-HEADS-OF-STATE-AND-GOVERNMENT-12.06.2023.pdf?utm_source=chatgpt.com

[20] “Communiqué of the 1st Meeting of the IGAD Quartet Group of Countries for the Resolution of the Situation in the Republic of Sudan," IGAD, 10 July 2023, accessed on 25/11/2025:

https://igad.int/wp-content/uploads/2023/07/Final-Communique-IGAD-Quartet-Meeting-on-the-Situation-in-the-Republic-of-Sudan-10072023-1.pdf

[21] Reuters, “Sudanese general warns Kenya against sending peacekeepers," 24 July 2023, accessed 26 November 2025, at: https://www.reuters.com/world/africa/sudanese-general-warns-kenya-against-sending-peacekeepers-2023-07-24/

[22]"الخرطوم تلوّح بالانسحاب من “إيغاد" وتتمسّك برفض رئاسة كينيا للجنة الرباعية"، موقع سودان تربيون 8/9/2023، شوهد في 26/11/2025، في: https://sudantribune.net/article/276986

[23] “Communiqué of the 2nd Meeting of the IGAD Quartet Group of Countries for the Resolution of the Situation in the Republic of Sudan," IGAD, 6 September 2023, accessed 11 March 2024, at: https://igad.int/communique-of-the-2nd-meeting-of-the-igad-quartet-group-of-countries-for-the-resolution-of-the-situation-in-the-republic-of-sudan/

[24] “Communiqué of the 41st Extraordinary IGAD Assembly of Heads of State and Government, “GAD, 9 December 2023, accessed 11 March 2024, at:

https://igad.int/communique-of-the-41st-extraordinary-assembly-of-igad-heads-of-state-and-government-djibouti-republic-of-djibouti-9th-december-2023/ IGAD

[25] Africanews, “Sudan Demands Full Reinstatement to the African Union, Conditions Acceptance of Mediation," 13 August 2024, accessed 26 November 2025, at:

https://www.africanews.com/2024/03/04/sudan-demands-full-reinstatement-to-the-au-conditions-acceptance-of-mediation/

[26] Reuters, “Egypt launches fresh Sudan mediation attempt during summit," 13 July 2023, accessed 26 November 2025, at:

https://www.reuters.com/world/africa/egypt-launch-fresh-sudan-mediation-attempt-during-summit-2023-

[27] الشرق الأوسط، "الشرق الأوسط تحصل على "اتفاق المنامة" بين الكباشي ودقلو"، 19/2/2024، شوهد في 26/11/2025، في: https://shorturl.at/lVHnI

[28] Swissinfo, “Sudan: everything you need to know about the Geneva negotiations", 14 August 2024, accessed 26 November 2025, at:

https://www.swissinfo.ch/eng/international-geneva/sudan-everything-you-need-to-know-about-the-negotiations/86818808

[29] European Council on Foreign Relations (ECFR), “Conflict and interests: Why Sudan's external mediation is a barrier to peace," 8 September 2023, accessed 26 November 2025, at:

https://ecfr.eu/article/conflict-and-interests-why-sudans-external-mediation-is-a-barrier-to-peace/

[30] Chr. Michelsen Institute (CMI), “The failure of mediation and peacemaking efforts in the Sudan crisis," December 2022, accessed 26 November 2025, at:

https://www.cmi.no/publications/9740-the-failure-of-mediation-and-peacemaking-efforts-in-the-sudan-crisis

[31] "حركة مناوي تطالب بإشراك القوة المشتركة في مفاوضات جنيف وتحذّر من تجاوزها"، صحيفة السوداني نيوز، 27/7/2024، شوهد في 27/7/2024، في:

https://alsudaninews.com/?p=183829

[32] "البرهان: الرباعية غير مبرّئة للذمة إذا كانت الإمارات جزءًا منها"، صحيفة التيار، Jehad، 23/11/2025، شوهد في 26/11/2025، في:

https://shorturl.at/J9beV