قد يكون أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن قطر هو صور ناطحات السحاب البراقة والفعاليات الرياضية العالمية، لكن ثمة جانب آخر لا يقل أهمية عنه تتمتع به هذه الدولة الخليجية التي بات لها تأثير عالمي كبير؛ ويتمثل في الدبلوماسية الإنسانية.
كيف يمكن لهذه الدولة الصغيرة أن تحقق مثل هذا التأثير الكبير؟ أثار هذا السؤال الفضول الأكاديمي لديّ ولدى الدكتور غسان الكحلوت، فكانت ثمرتُه بحثًا مشتركًا معمّقًا نشرناه مؤخرًا بعنوان "الدبلوماسية الإنسانية القطرية: الملامح الرئيسة والتحديات والآفاق"، في مجلة "العالم الثالث" ((Third World Quarterly الفصلية، ناقشنا فيه التحركات الجريئة التي اتخذتها قطر على الساحة الإنسانية؛ في محاولة تقصي ما يمكننا تعلمه من نهجها. وقد كان هدفنا هو فهم كيفية تكيّف قطر بفعالية- على الرغم من صغر مساحتها- مع المشاهد السياسية والإنسانية المعقدة والتحديات التي تواجهها على طول الطريق.
تتلخص الدبلوماسية الإنسانية في إقناع صناع القرار بالتصرف لمصلحة الفئات الضعيفة مع الالتزام بالمبادئ الإنسانية. وخلال العقد الماضي، كثفت قطر جهودها، جامعةً بين الواجب الأخلاقي والحنكة السياسية، في سبيل إيجاد موطئ قدم لها في هذا المجال. وبصرف النظر عن المواقف المختلفة حول سياساتها، فقد حظيت جهود قطر في الدبلوماسية الإنسانية باعتراف واسع.
التحركات الاستراتيجية في المساعدات الإنسانية
من ضمن أمور أخرى، كانت قطر من أوائل المستجيبين للأزمات في لبنان وسورية واليمن وباكستان والعراق وبنغلاديش وميانمار وأفغانستان، التي كان لها فيها دور الوسيط الإنسانيّ الرئيس والميسر خلال جهود الإجلاء الفوضوية التي أعقبت الانسحاب الأميركي في عام 2021. وهذه ليست مجرد مبادرات رمزية؛ فمساهمات قطر المالية كبيرة، وقد منحتها دورًا بارزًا في جهود الإغاثة الدولية.
على أن الأمر لا يتعلق بالمال فقط، فالسياسة الخارجية المتوازنة التي تنتهجها قطر تتيح لها الحفاظ على علاقات مع مجموعة متنوعة من الفصائل السياسية والدينية، وقد مكنتها هذه الخبرة الدبلوماسية من الاضطلاع بدور الوسيط في المواقف المعقدة، مثل محادثات السلام بين طالبان والولايات المتحدة، التي أفضت إلى اتفاق الدوحة، وهو ما يظهر أن قطر لا تخشى الانخراط في أعمال الوساطة المعقدة، وغالبًا ما تنجح حيث يتردد الآخرون.
الجهود المتكاملة والتحديات الواقعية
إذن، ما السر وراء نجاحات قطر الإنسانية؟ إنه التعاون الوثيق بين حكومتها والمنظمات غير الحكومية، وفي طليعتها مؤسسة قطر الخيرية وجمعية الهلال الأحمر القطري، اللتان تعملان بالتعاون مع وزارة الخارجية، وهذا النهج المتكامل هو ما يضمن تنسيق مهامهما الإنسانية وزيادة فعاليتها.
وقد كان أحد التحديات الرئيسة هو غياب الهياكل الرسمية المخصصة للدبلوماسية الإنسانية داخل هذه المنظمات، على النقيض من الكيانات الأكثر رسوخًا، إذ تعمل المنظمات غير الحكومية القطرية غالبًا على أساس مؤقت غير منظم، حيث تبدأ التدخلات في العديد من الحالات بمبادرات فردية، وهو ما قد يؤدي إلى عدم الاتساق وغياب الكفاءة. وغالبًا ما تفتقر هذه المنظمات إلى عدد كافٍ من الموظفين المدربين تدريبًا جيدًا، أو إرشادات منظمة جيدًا معدة مسبقًا، وفي بعض الأحيان تجد المنظمات القطرية أن جهودها، وخاصة أثناء الأزمات، تنبع من حسن النية ولكن على أساس مؤقت.
تجاوز العقبات السياسية
يمكن للتوترات السياسية في بعض الأحيان أن تعرقل الجهود الإنسانية التي تبذلها قطر؛ كما حدث في عام 2017؛ حين فرضت دول الخليج المجاورة حصارًا على قطر، متهمة إياها بدعم الإرهاب، فعلى الرغم من فشل هذا الحصار في عزل قطر سياسيًّا، فقد صعَّب عملياتها الإنسانية؛ إذ تصاعدت الاتهامات، وأصبحت الخطوط الفاصلة بين السياسة والإنسانية غير واضحة إلى حد خطير.
إضافة إلى ذلك، فإن العاملين الإنسانيين القطريين لا يحظون بنفس الحماية التي يتمتع بها نظراؤهم في المنظمات الدولية كالأمم المتحدة أو اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومن ثم فإنهم- من دون الحصانة الدبلوماسية- يواجهون مخاطر قانونية وأمنية يمكن أن تعيق عملهم في مناطق النزاع. ويشكل هذا الافتقار إلى الحماية نقطة ضعف بارزة تحتاج إلى معالجة.
الارتقاء إلى مستوى التحدي
على الرغم من هذه العقبات، تواصل قطر جهودها، وتعمل باستمرار على تطوير استراتيجياتها لتعزيز جهودها في مجال الدبلوماسية الإنسانية، ومن بين التطورات الواعدة في هذا السياق التركيز على التدريب المهني للعاملين في المجال الإنساني؛ فعلى سبيل المثال نظم معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث دورة في عام 2021 لتعزيز مهارات الدبلوماسيين القطريين. ويُعد هذا التركيز على بناء القدرات أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق دبلوماسية إنسانية فعالة.
كذلك تستفيد قطر من تراثها الإسلامي لبناء علاقات وثيقة مع المجتمعات في المناطق ذات الأغلبية المسلمة، وغالبًا ما يجعل هذا الارتباط الثقافي والديني العمليات الإنسانية أكثر سلاسة، حيث ترى تلك المجتمعات أن المساعدات القطرية نابعة من القيم المشتركة والتفاهم المتبادل. ومن خلال دمج المبادئ الإسلامية مع القانون الإنساني الدولي، تصوغ قطر نموذجًا مميزًا من الممارسات الإنسانية التقليدية والحديثة. فعلى سبيل المثال من خلال استضافتها جلسات تؤكد على الروابط بين القانون الإنساني الدولي وقواعد الحرب في الإسلام، أبرزت قطر المبادئ التوجيهية الإسلامية الرئيسة، التي تمنع إيذاء غير المقاتلين والإضرار بالطبيعة، وغير ذلك. كما استضافت قطر المنتدى الإسلامي للقانون الدولي الإنساني، بالتعاون مع اللجنة الإسلامية للهلال الدولي.
التأثير: لا شيء يأتي بلا ثمن
على الرغم من أن جهود قطر في الدبلوماسية الإنسانية أسفرت عن نتائج متباينة، فإن دورها في الوساطة في النزاعات وتقديم المساعدات الإنسانية قد عزز سمعتها الدولية بقوةٍ. على أن هذه المبادرات لم تخلُ من الانتقادات، وبطبيعة الحال فإن أول انتقاد غالبًا ما يكون التشكيكَ في دوافعها، وهو ما يشير إلى أن هذه الجهود مدفوعة سياسيًا أكثر من كونها إنسانية بحتة، وهو ما قد يكون صحيحًا إلى حد ما نظرًا لطبيعة الحقائق الدبلوماسية.
ويزعم البعض أن تدخلات قطر تفتقر إلى حساسية النزاع، مشيرين إلى حالات لم تؤد فيها جهود الوساطة إلى سلام دائم؛ فعلى سبيل المثال فشلت وساطة قطر بين الحكومة والمتمردين الحوثيين في اليمن في عام 2008 في نهاية المطاف، وهو ما أدى إلى تصعيد التوترات بدلًا من حلها. ويقول المنتقدون إن هذا يسلط الضوء على الاعتماد على الجهود قصيرة الأجل والطارئة بدلًا من الاستراتيجيات المستدامة طويلة الأمد. وتؤكد هذه التجارب ضرورة تحري التوازن الدقيق في الدبلوماسية الإنسانية، وتبرز الحاجة إلى نهج أكثر شمولًا.
إن الانخراط في مثل هذه الوساطات المعقدة لن يكون بلا ثمن؛ فعلى سبيل المثال بالنظر إلى الدور الذي اضطلعت به قطر في الدبلوماسية الإنسانية والوساطة في غزة، فقد واجهت انتقادات حادة من جهات مختلفة، إذ اتهمها بعضهم بدعم الإرهاب بسبب علاقتها مع حماس، متجاهلين المساعدات الإنسانية الكبيرة التي قدمتها قطر لتخفيف معاناة الفلسطينيين تحت الحصار، فضلًا عن تجاهلهم، في كثير من الأحيان، جهودها لإطلاق سراح الرهائن/المعتقلين الإسرائيليين منذ بداية الصراع، ونجاحها في التفاوض على إطلاق سراح بعضهم، وهو ما يُظهِر التزامها بالمبادئ الإنسانية بغض النظر عن التعقيدات السياسية.
ومن المهم أيضًا أن نأخذ في الحسبان السياق الأوسع لأفعال قطر؛ فقد تكون بعض الانتقادات صحيحة، مثل الحاجة إلى استراتيجيات أكثر استدامة ومؤسسية، لكن مع ذلك فإن تحقيق التوازن بين هذين الدورين المزدوجين، المتمثلين في تقديم المساعدات والتعامل مع الحساسيات السياسية، يعد مهمة صعبة بطبيعتها، ومن ثم فإذا ما أردنا تقييمه فيجب أن نبدأ بوضع المشهد في سياق أكثر شمولًا.
الطريق إلى الأمام
تُظهر لنا تجربة قطر في الدبلوماسية الإنسانية أنه حتى الدولة الصغيرة يمكن أن تحقق تأثيرًا كبيرًا من خلال الاستخدام السليم لكل من الموارد والاستراتيجيات. وستكون معالجة تحديات: المؤسسية، والقدرات المهنية، والتوترات السياسية، مفتاحًا لتعزيز تأثير قطر في الدبلوماسية الإنسانية.
تذكرنا رحلة قطر بأن العمل الإنساني المؤثر ليس حكرًا على الدول الكبيرة والقوية. ومع الاستمرار في الابتكار والالتزام يمكن أن تظل قطر فاعلًا رئيسًا في الدبلوماسية الإنسانية، وهو ما يُظهِر للعالم أن المساحة الجغرافية ليست كل شيء عندما يتعلق الأمر بإحداث فارق. لذا، سواء كنت صانع سياسات أو عامل إغاثة أو مجرد شخص يهتم بالقضايا الإنسانية العالمية، فإن تحركات قطر في الدبلوماسية الإنسانية تستحق المتابعة بالتأكيد.
في بحثي المستقبلي، أنوي استكشاف الاستراتيجيات التي يمكن للجهات الفاعلة في الدبلوماسية الإنسانية الناشئة، وخاصة الدول الصغيرة مثل قطر، تبنيها لتجاوز تأثير التوترات السياسية والتدخلات، مع ضمان الحفاظ على المبادئ الإنسانية في طليعة دبلوماسيتها، وتقديم حماية وحصانة أفضل للدبلوماسيين في هذا المجال.