تم نشر المقال في الأصل باللغة الإنجليزية على موقع Middle East Monitor
شهدت مراسم جنازة الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، ورئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، مشاركة مئات الآلاف من المشيعين من جميع أنحاء لبنان والعالم أمس. وقد ضم هذا الحشد جماهير من مختلف الطوائف، ليشكّل مشهدًا قويًّا للوحدة الوطنية. وقد بعثت هذه الحشود برسالة مؤثرة للعالم مفادها أنه على الرغم من الدمار الذي خلفته الحرب الأخيرة مع إسرائيل، لا تزال القاعدة الشعبية لحزب الله موالية له بشدة. وفي نظر العديد من أبناء الطوائف الشيعية، وخاصة في وادي البقاع وجنوب لبنان، لم يكن نصر الله مجرد قائد سياسي، بل كان أيضًا رمزًا لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وتحولت جنازته إلى محطة التقاء لمن يعدون حزب الله حاميًا لهويتهم وكرامتهم.
ومع ذلك، تحت سطح هذا الاستعراض للوحدة، لا تزال التساؤلات قائمة حول مستقبل حزب الله؛ إذ خلّفت الحرب الأخيرة مع إسرائيل دمارًا هائلًا في لبنان، حيث تحولت أحياء بأكملها إلى أنقاض، وشُرّد الآلاف. وبينما يدّعي حزب الله أن وقف إطلاق النار انتصار، مجادلاً بأن عجز إسرائيل عن إحراز تقدم ميداني أجبرها على وقف الأعمال العدائية، يرى آخرون أن النزاع انتكاسة للحزب. ويشير المنتقدون إلى الخسائر الفادحة التي تكبدها الحزب من جراء الحرب التي شملت فقدان قادة بارزين، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، إلى جانب تنامي الاستياء بين الطوائف غير الشيعية التي تُحمّل حزب الله مسؤولية إشعال فتيل النزاع. وقد أججت هذه التناقضات نقاشًا حادًّا حول ما إذا كان نفوذ حزب الله بدأ يتراجع، سواء على المستوى العسكري أو في المشهد السياسي اللبناني المتشرذم.
مشاهد الوحدة في الجنازة لا تُخفي التصدعات العميقة في النسيج الاجتماعي اللبناني
لقد أصبحت الطائفية سمة راسخة في السياسة اللبنانية، حتى غدت مرضًا مستعصيًا على العلاج. فمنذ الميثاق الوطني عام 1943 مرورًا باتفاق الطائف عام 1989، رسخ النظام السياسي اللبناني مبدأ تقسيم السلطة على أساس طائفي بدلًا من المواطنة. وقد ولّد هذا النظام ظاهرة المحسوبية، حيث اعتمد القادة السياسيون على الولاء الطائفي للحفاظ على مناصبهم. وقد عمّقت الحرب الأخيرة مع إسرائيل هذه الانقسامات؛ فبينما يرى أنصار حزب الله في الحزب حصنًا ضروريًّا في مواجهة العدوان الإسرائيلي، يُحمّله آخرون مسؤولية جرّ لبنان إلى صراع لا يطيقه، والنتيجة مجتمع يزداد استقطابًا بين مؤيدي حزب الله ومن يرونه عائقًا أمام تحقيق السلام والاستقرار.
تُشكّل أيديولوجية حزب الله القوة الدافعة لصمود المجتمع الشيعي؛ فقد أمضى كثيرون ليلتهم في بيروت ليشاركوا في جنازة نصر الله في اليوم التالي. وليست تلك الأعداد الهائلة من الحضور وشهاداتهم ومشاعر الصمود التي عكست التمسك بالمقاومة على الرغم من فقدان أفراد من عائلاتهم ومنازلهم خلال الحرب، سوى دليل على أن مجتمع حزب الله لا يزال متماسكًا. وقد عانت هذه المجتمعات من التمييز أثناء سعيها للجوء إلى مناطق أخرى آمنة داخل لبنان. وبغض النظر عن بعض التصريحات الرسمية التي تحدثت عن الوحدة، هناك أصوات كثيرة في الشارع اللبناني تُحمّل حزب الله مسؤولية اندلاع الحرب. وقد رفضت العديد من العائلات والأفراد تأجير منازلهم للنازحين المؤيدين لحزب الله خوفًا من قصف ممتلكاتهم، أو ببساطة بسبب مشاعر طائفية، أو، بعبارة أخرى، بسبب الكراهية والإقصاء.
يُعد هذا الأمر خطيرًا للغاية على مستقبل التعايش في لبنان؛ إذ تعتمد شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني على السياحة، وتشير التقارير إلى أن الحرب (التي يُقال إن حزب الله هو المسؤول عنها) قد أثرت تأثيرًا كبيرًا على هذا القطاع الذي يُعد مصدر رزق لكثيرين. علاوة على ذلك، فمن المعروف أن عدد المغتربين اللبنانيين حول العالم يفوق عدد المواطنين اللبنانيين المقيمين في بلدهم؛ وهذا يعني أن اللبنانيين لطالما كانت لديهم أولوية لزيارة البلاد بسلام، وزيارة عائلاتهم، والاستمتاع بوقتهم، وقد زادت الحرب من تعقيد هذه الحاجة.
بلد منقسم بين مجتمعات مدفوعة بأيديولوجيات متعارضة
في القرى الجنوبية، حيث معقل حزب الله، ينظر السكان إلى مقاومة إسرائيل على أنها واجب مقدس متجذر في الهوية الشيعية. وفي المقابل، في أحياء بيروت العصرية، يرى رواد الأعمال العلمانيون أن استمرار النزاع يرهب المستثمرين والسياح. واللافت أن هذه المجموعات لا تفصل بينها سوى بضعة أميال، ومع ذلك فإن أولوياتها - البقاء مقابل الازدهار – تعكس انقسامًا عميقًا في بلد تمزقه أولويات متعارضة للغاية.
وعلاوة على ذلك، فإن تاريخ لبنان عبارة عن سلسلة طويلة من الأزمات، كل واحدة منها عمّقت الانقسامات الطائفية التي تعاني منها البلاد منذ تأسيسها. لكن الطائفية ليست مجرد مسألة سياسية، فقد تسللت إلى كل جانب من جوانب الحياة، من فرص العمل والسكن إلى التعليم والرعاية الصحية. وبناء عليه، كان العقد الماضي على وجه الخصوص قاسيًا جدًّا؛ فقد أدت أزمة اللاجئين السوريين إلى استنزاف الموارد وزادت من التوترات بين المجتمعات؛ وكشفت جائحة كورونا (كوفيد-19) عن هشاشة نظام الرعاية الصحية؛ وقضى الانهيار الاقتصادي في عام 2019 على المدخرات وأغرق الملايين في براثن الفقر؛ وكشف انفجار مرفأ بيروت عام 2020 عن فساد الطبقة السياسية وعدم كفاءتها؛ وزادت الحرب الأخيرة مع إسرائيل، إلى جانب النزاع المستمر في غزة، من الشعور العام باليأس. ومع كل أزمة يتآكل النسيج الاجتماعي أكثر فأكثر، مما يثير مخاوف من انزلاق لبنان إلى حرب أهلية جديدة.
المعضلة واقعية وملحة؛ إذ يحق للناس العيش بسلام، لا سيما بعد ما عانوه من ويلات وصراعات، ومن السهل إلقاء اللوم على الطرف الآخر (في هذه الحالة بين مؤيدي حزب الله ومعارضيه). ومع ذلك، يختلف مفهوم السلام بين مختلف الطوائف في المجتمع اللبناني؛ فهناك من يعتقد أن السلام لا يمكن أن يدوم ما دام أن هناك دولة إسرائيل، وهناك من يفضل عدم التدخل في هذا النزاع الجيوسياسي والتركيز على إنعاش البلاد.
من الواضح جدًّا أنه لا يمكن لأي فئة إقصاء الأخرى، ولا ينبغي لها ذلك، لكن التطورات الأخيرة جعلت التعايش بين الناس ذوي الأيديولوجيات السياسية والدينية المختلفة أكثر صعوبة من أي وقت مضى. وهذا يطرح تساؤلًا حول ما إذا كنا نواجه خطر اندلاع حرب أهلية جديدة. وهل سيتمكن الرئيس والحكومة الجديدان من تحقيق التوازن بين هذه الأهداف المتباينة تمامًا؟ وهل الوحدة الاجتماعية أفضل من النهج التصاعدي (أي الذي يبدأ من القاعدة الشعبية)، أم أنها تتطلب إرادة سياسية وقرارات حاسمة؟
لا تزال القوى العظمى المتصارعة حاضرة في المشهد السياسي اللبناني، وخاصة الولايات المتحدة وإيران والمملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من أن الوحدة الاجتماعية تتطلب جهودًا من جميع مستويات السلطة، فإنها شرط أساسي للسلام في لبنان بغض النظر عما يحمله المستقبل.
لقد ولّى زمن الحلول الجزئية والوعود الفارغة، ويجب على قادة لبنان تجاوز مصالحهم الضيقة وتقديم مصلحة الوطن العليا؛ وهذا يعني تفكيك النظام الطائفي الذي رسخ الفساد واللامساواة، والاستثمار في مؤسسات تخدم جميع المواطنين بلا تمييز، وترسيخ ثقافة الحوار والمصالحة.